

| أفكار ونظريات | لماذا يحارب الأثرياء والمترفون الدين؟

لماذا يحارب الأثرياء والمترفون الدين؟
الشيخ باسم الحلي
قال أوسفلد اشبنغلر: (ليست الحضارة، شيئاً عظيماً فقط، هي النقطة التي يسمو عندها الإنسان بنفسه فوق قوى الطبيعة...؛ فالحضارة والطبقة (=السمو) تعبيران متعاوضان، يولدان معاً ويختفيان معاً) (سقوط الحضارة الغربيّة 2: 487).
لعلّ من أشهر الكتب التي أضحت مصدراً من أهم مصادر فلسفة التاريخ في ضرورة سقوط الحضارات البشريّة، مقدمة ابن خلدون، ففيها أماط الغطاء عن نظريته الدورية في انهيار الحضارات، وعلى منوالها انيهار الحضارة الغربيّة للفيلسوف الألماني اسفلد اشبنغلر وغيرهما؛ فإنّ أيّ حضارة تمرّ بمرحلة الولادة والشباب ثم الهرم والانهيار، وهكذا دواليك ما دام الترف قائماً، قال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ).
الذي تدعو الضرورة لبيانه، أنّ الترف عند الفلاسفة أعلاه، لا يقصد به الاقتصار على ترف العيش والراحة، بالإفراط في المأكول والمشروب والملبوس فضلاً عن المساكن والأبنية..، فهذا وإن كان بعضه بهيمياً حيوانيّاً ليس بمستساغ، يساهم قطعاً في انهيار الحضارة، إلّا أنّ المقصود به أعلى مستوياته التي تستتبع جحود المنطق، واستعباد الإنسان، بانتهاك حرمته، وإلغاء قيم الإنسانيّة، واستسهال ما كان ممتنعاً عادةً قبل حصول الترف، كنكاح المحارم، وقتل الأخ لأخيه، بل الابن أباه، والأب ابنه، والأم ولدها، والولد أمه، ناهيك عن زملاء الثورة وأخوان الجهاد..، هذه هي المرحلة التي آلت كل حضارة عظيمة قبيل انهيارها، وهو حال الحضارة العباسية قبيل سقوطها على يد هولاكو..
وموجز ذلك أنّ نشوء أيّ حضارة يبدأ بسعي مجتمع ما أو قوم أو طائفة، بما لهم من دوافع وقيم ومبادئ، آيديولوجيّة أو دينيّة أو سياسية أو قوميّة أو اقتصاديّة، في طلب الملك وتأسيس دولة أو كيان؛ ليتسنّى الدفاع عن النفس والعرض والشرف والعزّة والمجد والهيبة والكرامة والقيمة والمبادئ، لضمان البقاء في سجال الصراع البشري الذي ربما يكون دموياً..
لا يهتم الآباء المؤسسون، بادئ ذي بدء، بالترف ودعة العيش والاستقرار والسكينة والاستغراق في الملذات قبل تحقيق الهدف؛ كلّ همهم تحقيق ما يحفظ لهم الهيبة والكرامة والقيمة والمبادئ والقومية، في سجل الصراع لا يعدلون عن ذلك سبيلاً، بل قد يضحون بما عندهم من غال ونفيس لتحقيقه..
قال ابن خلدون: «عمر الدّولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال؛ لأنّ الجيل الأوّل لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحّشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد...، فحدّهم مرهف وجانبهم مرهوب والنّاس لهم مغلوبون». (مقدمة ابن خلدون: 214).
الملاحظ في هذا المرحلة، مرحلة النشوء، أنّ كل فرد من أفرادها الأوائل، مستعد للتضحية عن الفرد الآخر؛ تحقيقاً للغرض العام الدائر مدار عزة المجتمع أو القوميّة أو أو الدين، أو الآيديولوجيّة الجامعة لهم..؛ وذلك لأن العقل (التفكير) الجمعي لهدف كلّ أفراد بناة الحضارة الأوائل واحد في الجميع؛ إذ لا تعدد في التفكير ولا تباين في العقول في هذه المرحلة، القائد والمقود يأكلان على الأرض يتشاركان الطعام والشراب وكلّ شيء..
ثمّ تأتي المرحة الثانية، مرحلة الشباب، وهي التربع على صهوة الكرسي وعرش الملك، بعد الأمن من الأعداء، وضمان البقاء، وتحقق الهدف الواحد، ووضع السيف في الغمد.
فيها تشرع مرحلة السكون والترف والتحضر والراحة، وهيهنا يكسل الشعور بالمجد، ويضعف الاعتزاز به، ويخمل معنى الشرف في السلوك، ويتسافل مقدس المبادئ، وينكسر عامود الأخوة، ويعلو هرم الطبقيّة؛ فيكثر التحاسد، ويشتد التباغض، ويقوى ما يناقضه من اشتداد لذة الترف وصنوف طغيانه، في الطعام والشراب واللباس والبناء وطرق العيش.
قال ابن خلدون: «الجيل الثّاني تحوّل حالهم بالملك والتّرفّه من البداوة إلى الحضارة، ومن الشّظف إلى التّرف والخصب، ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به، وكسل الباقين عن السّعي فيه، ومن عزّ الاستطالة إلى ذلّ الاستكانة...، وتؤنس منهم المهانة والخضوع...». (مقدمة ابن خلدون: 214).
في هذا المرحلة تتعدد الأهداف، وتتغاير الأغراض؛ فبعد أن كان بناة الحضارة وأهلها الأوائل، وحدة واحدة في الهدف والعقل والتفكير، في أدنى مستويات التقشف، وأعلى مراتب المساواة الأخويّة، تعددوا في الطبقيّة؛ فالملك غير وزرائه، ووزرائه غير بقيّة الشعب، وعادة ما يكون الشعب تحت خط الفقر ولو بعد حين، وأما الملك وحواشيه وزراء وقواد فيعيشون الترف في أعلى مستوياته، وأبشع أشكاله..
ولا ينفي هذا أنّ الدولة الآن في أوجها وشبابها، لما تمتلك من سلطة ومال، ولما لها من تاريخ سجل لها انتصاراً حاضراً مدوّياً على من سبقها حاضر، ترهب به خصومها، أو هو كفيل بأن يجعل من خصومها على حذر شديد..
الترف في أبشع أشكاله، تصفية المعارضين!!
ومن الأمثلة الصريحة في القرآن على مداريّة الترف في قلب المعادلات، قوله تعالى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ).
في هذه المرحلة، مع هذا الترف والمجد وسكر السلطة، يضيق الخناق على الملك أو الرئيس، ليكون بين أمرين أحلاهما مرّ؛ فإمّا أن يستمر على مبادئ الثورة والمساواة والعدالة، ويترك ترف الطغيان وحلاوة الانفراد بالكرسي، ولم يحصل هذا في التاريخ إلّا نادراً لا يقاس عليه..
أو أن يحتفظ بكرسيّه وعرشه وسلطانه ليكون إرثاً شخصياً له، ولا سبيل إليه إلّا أن يكون طاغية دكتاتوراً سفاكاً للدماء، وكلّ (أو جلّ) ملوك الحضارات على هذا المنوال، إلّا ما ندر..
يبدأ الملك بالتخطيط للحفاظ على عرشه وسلطانه، بتصفية واغتيال، أو إلغاء ما تصنّفه السياسة كلّ ما كان عائقاً لملكه وسلطانه، ولو كان من أرحامه وأخوانه..
ينقسم القواد والوزراء جرّاء ذلك إلى قسمين؛ فمنهم من يكون في صف الملك، لكن لا حباً به، وإنّما لارتباطهم به وجوداً وعدماً، والقسم الثاني في صف من ينازع الملك سلطانه من أرحامه؛ لنفس العلّة أي: لارتباطهم به وجوداً وعدماً..
كل هذا تحت غطاء ذريعتين؛ فذريعة الملك الحاضرة هي الخيانة، وذريعة من ينازع السلطان تحقيق العدالة الموهومة، وكل من الذريعتين كاذبتان..
الثورة الفرنسية خير مثال، فبعد أن هبّ الشعب مع القادة في وحدة واحدة وكيان واحد وروح واحدة، لإسقاط الملك المطلق، المتمثل آنذاك بالملك لويس السادس عشر، كان أول ما فعله روبسبير بعد نجاح الثورة، وهو من أبرز قيادات الثورة الفرنسيّة، تصفية كلّ قادة الثورة الأوائل، بتهمة حاضرة هي الخيانة لمبادئ الثورة، وهي تهمة كفيلة بتصفية كلّ الخصوم الأقوياء المناوئين لدكتاتورية روبسبير؛ ليضحى دكتاتوراً ناصعاً في التاريخ، إلى أنْ ثار نفس ثوار الثورة عليه فأعدموه بالمقصلة سنة 1794م.
هذه المرحلة، مرحلة الترف الدموي، هي مرحلة التصفية والاغتيال، واستقرار الدكتاتوريّة، يرافقها كالشقيق طغيان الترف على تراث المجد والقيم والمبادئ؛ فيها يكون الصراع الداخلي بين أفراد الطبقة الحاكمة في أعلى مستوياته، لتبدأ الاغتيالات والتصفيات بين أبناء العائلة المالكة إلى حد الاشمئزاز، مع أنّهم كانوا في الماضي القريب عنوان للقيم وترجمان للمبادئ، وتجسيد للشرف والعزة والتضحية، ليؤول أمرهم جميعاً مصداقاً جليّاً للخيانة والكذب والغدر وسفك الدم وانتهاك حرمة الإنسان..
الملاحظ في عمق التاريخ، ضمن هذه المرحلة، أنّ كلّ الملوك والأباطرة والخلفاء على مرّ الزمان، أي: الذين ملكوا بقوّة السيف وسفك الدم، وتربعوا على عرش الملك، انتهجوا خيانة المبادئ، وتصفية المعارضين، بل سفك دم أرحامهم؛ طمعاً ببقائهم وبقاء ذراريهم بلا منازع..
حسبنا أنّ الخليفة سليمان القانوني، قتل أكبر أولاده؛ لمجرّد أنّه أضحى محبوباً عند النّاس أولاً، وعند الإنكشاريين ثانياً، وهم: جيش الخليفة الخاص المدخور للمهمات الصعبة..
يصاحب هذه المرحلة، أنّ خراج الدولة (الضرائب) لم يعد يحتمل مصاريف ترف الطبقة الحاكمة، المستغرق في النساء والخمور والأبنية الشاهقة والحدائق العامرة والألبسة الفاخرة والأطعمة النادرة وكثرة الخدم..
يذكر التاريخ أنّ عبد الرحمن الداخل (عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان)، مؤسس دولة الأندلس، كان يتمنى مجرد البقاء على قيد الحياة لما هرب من سطوة العباسيين، لكن لمّا استتب له سلطان الأندلس، غدر بكلّ من عاونه لبنائها من مواليه بذريعة الخيانة؛ تفرداً بالكرسي والسلطة، الدكتاتوريّة بعينها في كل مراحل التاريخ، ناهيك عن أنّه كان يسبح وسط سبعين جارية عارية..
هذه المرحلة مهما طالت، لا أهليّة لبقائها؛ لافتقارها لكلّ أسباب الحياة التي يمكن أن يفترضها الفكر الإنساني؛ لاحتراق آخر أوراق ما به نشأت الحضارة، من دين أو قوميّة أو آيديولوجيّة، كلها احترقت أيّام الترف، إلى درجة استسخاف كل خطاب ديني أو نداء قومي، أو تحريك آيديولوجي، لإرجاع وحدة أبناء الحضارة، بل إنّ هؤلاء الأبناء يعدون مثل هذه الخطابات ضحك على الأذقان، غش صريح، وكذب فصيح، فارغة المحتوى والمضمون..
قال ابن خلدون: «وأمّا الجيل الثّالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العزّ والعصبيّة بما هم فيه من ملكة القهر ويبلغ فيهم التّرف غايته...، فيصيرون عيالا على الدّولة...؛ فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا مدافعته...، حتّى يتأذّن الله بانقراضها».اهـ. (مقدمة ابن خلدون: 214).
لماذا يحارب أهل الترف الأديان؟!
كل ما سردناه كان توطئة للجواب على هذا السؤال، وموجز الجواب:
لأنّ الدين من حيث كونه مؤثراً جيداً في إنسانيّة الشعوب، وفي إبقاء نسل البشر حياً صامداً، وقدرته الهائلة في تغيير مسار التاريخ وصيروراته، كفيل بزعزعة عرش الترف الدموي، وإعدامه إلى غير رجعة، وهو معنى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا).
وفي المقابل: لماذا يحارب الدين الترف بكلّ أشكاله؟!!.
بإيجاز؛ لمنع الترف، المستتبع لأبشع أشكال انتهاك حرمة الإنسان، المتمثلة بسفك الدماء وانتهاك الأعراض، ونكاح المحارم، وضياع الحقوق، بل قد وصل أمر بشاعة أهل الترف إلى يومنا هذا، أنّ لهم سوق سوداء يبيعون فيها جثث البشر؛ لأكلها، في مناسبات خاصّة؛ طلباً لطعوم أخرى لم يجربوها ولم يكتشفوها..
بل قد وصل الأمر بالترف البشع، إلى حد الجنون، وعدم الانضباط، وضياع مطلق الأخلاق، كالذي نراه في جزر العراة، وتبادل الزوجات، والمثليّة والتحول..
فمع أنّ موارد الدولة العبّاسيّة، من حيث العدد والمال والعدة والدولة، حيث كان يمكن لهم أن يجنّدوا مليون جندياً قياساً بمائة ألف جندي مغولي تحت قيادة هولاكو، إلّا أنّ من تصدى لهم من جيش العباسيين بكسل واستحياء وعدم اهتمام، وربما بإجبار عسكري من قبل الدولة، لا يتجاوز خمسين ألف مقاتلاً، بل بعض المصادر تؤكد أنّ عددهم لا يتجاوز العشرين ألف مقاتل..
كل هذا مردّه إلى الترف وهو يعني عند ابن خلدون والقرآن: الكسل والخمول وعدم الاعتزاز بالمبادئ ولا بالتراث ولا بالدين ولا بالقومية ولا بالقيم التي بها أنشأ أباءهم الحضارة..
لماذا يصرّ أهل الترف على إنكار وجود الله؟!!
ليست المسألة مسألة عبادة طقسيّة للواحد الأحد الفرد الصمد سبحانه؛ فهذا وحده ربما لا يتقاطع مع ما هم فيه من ترف كثيراً، كما نرى في كل الكيانات الدينيّة الموحدة التي لا تتقاطع مصالحها مع الامبراطوريات الكافرة..
يكفيك أن تعرف أنّ الإمبراطورية الرومانيّة، وهي وثنية بامتياز، حكمت على السيد المسيح عليه السلام بالصلب والقتل، ولم تفعل ذلك مع اليهود إطلاقاً، مع أنهمّ كليهما موحداً يعد الوثنية كفراً..
السبب الوحيد أنّ توحيد اليهود، فارغ المحتوى والمضمون، لا يؤثر على امبراطوريّة الرومان قيد شعرة، بخلاف توحيد المسيح الذي أقام الدنيا وأقعدها بما يحمل من مبادئ إنسانيّة وقيم سماويّة وأخلاق بشريّة..