12 ذو القعدة 1446 هـ   9 أيار 2025 مـ 2:07 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | أفكار ونظريات |  المراهنة على عدم وجود الله: بين الربح والخسارة
2025-04-21   105

المراهنة على عدم وجود الله: بين الربح والخسارة


الشيخ معتصم السيد أحمد
يشير بعض الملحدين إلى أنه حتى لو افترضنا احتمالاً ضئيلاً لوجود الله، فإن هذا لا يستدعي اتخاذ موقف إيجابي تجاهه. في رأيهم، يمكن للإنسان أن يعيش حياة أفضل إذا راهن على عدم وجود الله، لأنه في هذه الحالة لن يخسر شيئاً ذا قيمة حقيقية. ويعتقد هؤلاء أن الإيمان بوجود الله يتطلب التزاماً دينياً قد يتسبب في ما يرونه خسائر، مثل ضياع الوقت في العبادة، وتقديم الأضاحي، والقتال في سبيله، بل وحتى تحمل معاناة الموت لأجله. بينما في المقابل، يرى هؤلاء أن الشخص الذي يتجنب هذه الالتزامات قد يستطيع العيش حياة أكثر سعادة وأقل تعقيداً. 

لكن هذا الإشكال يبدو أنه يغفل عن بعض الأبعاد المهمة التي تتعلق بكيفية تفكيرنا في الاحتمالات بشكل منطقي وواقعي. إذ إن التعامل مع الاحتمالات لا يقتصر فقط على الحسابات المادية أو الفوائد الفورية، بل يشمل أيضاً أبعاداً عقلية ودينية تقتضي منا اتخاذ مواقف واضحة بناءً على ما نحتمل وجوده أو غيابه. في هذا المقال، سنعرض مواقف عقلية ودينية ترد على هذا الاعتراض، ونكشف عن الخسائر الحقيقية التي قد تترتب على المراهنة على عدم وجود الله، ونوضح كيف أن الرهان على الإيمان به قد يؤدي إلى مكاسب أكبر في الحياة الدنيا والآخرة.

فالذي يبدو أن العقلية الإلحادية التي صاغت هذا الإشكال قد فكّرت بشكل عكسي في تحليل مسار الاحتمالات. فالاحتمال الإيجابي، مثل احتمال وجود الله، حتى وإن كان بسيطًا، يختلف تمامًا عن الاحتمال السلبي، مثل احتمال عدم وجوده. ففي الواقع، كل الاحتمالات الإيجابية تتطلب اتخاذ موقف إيجابي يتناسب مع هذا الاحتمال. على سبيل المثال، في حياتنا اليومية، عندما يحتمل الشخص أنه مصاب بمرض ما، فإنه يتخذ موقفًا يتناسب مع هذا الاحتمال، مثل زيارة الطبيب أو إجراء فحوصات طبية. هذا المنطق ينطبق على جميع الاحتمالات الإيجابية؛ فعندما لا يتوقع الشخص المطر، لا يحمل مظلة، لأنه في ظل احتمال العدم لا يحتاج إليها. ولكن إذا كان الاحتمال إيجابيًا، كما في احتمال وجود مرض أو توقع حدوث مطر، يتغير الموقف ويتطلب تصرفًا يتناسب مع ذلك الاحتمال.

بناءً على هذه المقارنة، فإن الاحتمال الإيجابي – كما هو الحال في احتمال وجود الله – يستدعي أن يتخذ الشخص موقفاً عملياً. فعلى الرغم من أن الإنسان قد يخسر بعض الوقت والجهد في البحث عن الحقيقة، فإن هذا البحث نفسه يحمل قيمة أخلاقية وعقلية كبيرة. إذاً، من خلال هذا المنظور، لا يمكن للمراهنة على العدم أن تكون الموقف العقلاني أو الصحيح عند الاحتكام إلى العقل، بل يجب أن يكون البحث عن الله والسعي لتحقيق مرضاته هو الموقف المنطقي.

فالمراهنة على عدم وجود الله قد يبدو في ظاهر الأمر أنها تدعو إلى حياة أكثر تحرراً أو "راحة"، لأنها لا تتطلب التزامات دينية قد يرى البعض أنها تعيق الحياة اليومية. لكن هذا الرأي يتجاهل الحقيقة الأساسية أن العبادة ليست عبئاً أو خسارة للوقت، بل هي وسيلة لتحقيق الراحة النفسية والطمأنينة. فالإيمان لا يتطلب فقط الالتزام بالشعائر الدينية، بل هو مفتاح لتحقيق معنى عميق للحياة والأمل المستمر.

الربح الذي يظنه البعض في المراهنة على عدم وجود الله هو وهم جزئي. فحتى لو بدا أن الشخص يحصل على وقت أكبر في الدنيا أو حرية أكبر، إلا أن هذا الارتباط بالمواد والتفاصيل اليومية سيحرم الإنسان من إدراك أبعاد حياته الروحية وأهدافه الأسمى. على العكس من ذلك، الإيمان بوجود الله يحمل في طياته قدرة على منح الإنسان غاية عميقة وسمواً روحياً يرفع من نوعية حياته على المدى البعيد.

فالنتيجة الحقيقية التي قد تترتب على المراهنة على عدم وجود الله هي خسارة عظيمة تمتد في أبعاد متعددة، سواء على المستوى الشخصي أو الوجودي. فالبحث عن الله، في جوهره، ليس مجرد استنزاف للوقت أو الجهد كما يتصور البعض، بل هو استثمار في أعمق ما يملكه الإنسان: في معنى الحياة، وفي اتجاهها، وفي الغاية التي تُعطي لكل لحظة من لحظاتها بُعداً يتجاوز المادي والعابر.

فالإنسان الذي يغفل عن بُعد الإيمان، ويتجاهل احتمال وجود خالق، يعرّض نفسه لخسارة روحية باهظة؛ لأن الضياع عن الحقيقة ليس مجرّد فشل معرفي، بل هو تيهٌ وجودي يُفقد الإنسان أعزّ ما لديه، وهو الإحساس بالهدف والمعنى. ومع كل يوم يمر عليه وهو بعيد عن هذا البحث، تتراكم داخله مشاعر القلق والفراغ، وتضعف بوصلته الداخلية، فيعيش حالة من اللامبالاة قد تقوده إلى الاستسلام للعبث أو الانتحار الرمزي أو الفعلي. يقول تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ).

والخسارة الأكبر، تتعلق بغياب الإيمان بالآخرة. فبينما يؤمن المؤمنون بأن لحياتهم امتدادًا يتجاوز حدود الزمن والمكان، يمنحهم الإيمان بالله رجاءً لا ينطفئ، وأملاً لا يخبو، ويمنح لحياتهم بُعداً أبدياً يُضفي المعنى على كل ألمٍ وصبرٍ وتضحية. نجد من يراهن على عدم وجود الله، فإنه يُقصي هذا الأفق الواسع من حياته، ويحرم نفسه من الاطمئنان الذي يمنحه اليقين بالعدالة الإلهية والنعيم الأبدي.

وهكذا فإن الرهان على عدم وجود الله لا يؤدي فقط إلى خسارة مؤقتة، بل يهدد الإنسان بخسارة وجودية كاملة، تُفقده السلام الداخلي، وتُضعف قدرته على تحمّل المصاعب، بل وتمنعه من تذوّق المعاني الكبرى التي ترتبط بالحياة، والهدف، والمصير.

وقد اعترف بهذه الحقيقة الفيلسوف الفرنسي، بليز باسكال في "رهانه" عندما أكد على القيمة الكبيرة للمراهنة على وجود الله، حيث يرى أن الإنسان الذي يراهن على الإيمان بالله يحقق ربحاً كبيراً في الحياة الآخرة حتى لو كان هذا الإيمان لا يعود عليه بفوائد محسوسة في الدنيا. بينما المراهنة على عدم وجود الله قد تؤدي إلى خسارة فادحة على المدى الطويل، لا سيما على مستوى الحياة الآخرة. وبذلك يكون قد وازن بين الاحتمالات، حيث تكون "المخاطرة" بالإيمان أقل ضرراً بكثير من "المخاطرة" بعدم الإيمان.

تُعزِّز الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام هذا المعنى العقلي والوجداني المتقدم، وتُجليّه بلغة موجزة وعميقة تُعبّر عن روح البرهان العقلي الذي يتناول الاحتمال وتبعاته المنطقية. ففي حديث الإمام الصادق عليه السلام مع ابن أبي العوجاء الزنديق، حين التقى به عند الطواف في مكة، قال له: "إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء - وهو على ما يقولون - فقد سلموا وعطبتم، وإن يكن الأمر كما تقولون - وليس كما تقولون - فقد استويتم وهم"، فهو بهذا البيان يضعه أمام صورة حسابية واضحة: في حال صدق ما يؤمن به أهل الإيمان، فإنهم قد فازوا ونجوا، وأما إن لم يكن الأمر كذلك، فإنهم لم يخسروا شيئاً في نهاية المطاف. أما أنتم، فإنكم إن كنتم مخطئين، فالخسارة التي تنتظركم لا تُقاس بشيء.

ويؤكد هذا المعنى ما ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام في قوله لواحد من المنكرين: "إن يكن الأمر كما تقول - وليس كما تقول - نجونا ونجوت، وإن يكن الأمر كما نقول - وهو كما نقول - نجونا وهلكت."، فيضع أمامه بوضوح أن المؤمن رابح في الحالتين، بينما الملحد ليس له إلا احتمال واحد للنجاة، وأي خطأ في مراهنته قد يجر عليه هلاكاً أبدياً لا يمكن تداركه.

هذه الأحاديث لا تقف عند حدود المجادلة اللفظية، بل هي تجسيد عميق لطريقة العقلاء في التعامل مع الاحتمالات المصيرية، فليس من الحكمة أن يُغامر الإنسان بكل وجوده، وبمصيره الأبدي، من أجل كسب مؤقت أو راحة عابرة، دون أن يتحقق ويتفحّص ويفتش عن الحقيقة، ويتخذ موقفاً إيجابياً من احتمالٍ يحمل في طياته النجاة أو الهلاك.

في علم الكلام الإسلامي، هناك دليل عقلاني يعزز الموقف العملي من احتمالية وجود الله. يعتمد هذا الدليل على فكرتين رئيسيتين: الأولى هي ضرورة شكر النعمة التي منحها الله للإنسان، والثانية هي دفع الضرر المحتمل الذي قد يترتب على تجاهل وجوده. عندما يحتمل الشخص وجود الله ويشعر أنه الخالق والمنعم، فإنه من المنطقي أن يسعى للبحث عنه ومعرفته من أجل شكر الله على نعمته. وعندما يغفل الشخص عن هذا الاحتمال ويترك نفسه يتجاهل هذه الحقيقة، فإنه يعرض نفسه لضرر روحي وأخلاقي عميق.

خاتمة:
إن المراهنة على عدم وجود الله ليست مجرد مسألة عقلية أو فلسفية بحتة، بل هي تؤثر على كيفية تصوّر الإنسان للحياة نفسها. إذا تجاهلنا البحث عن الله أو رفضنا الإيمان به، فإننا نخاطر بخسارة الأبعاد الروحية التي يمكن أن تعطي لحياتنا معنى أعمق وأكثر دواماً. من خلال هذا التفكير، يتبين أن البحث عن الله ليس فقط خياراً عقلياً منطقياً، بل هو استثمار في السعادة الحقيقية وفي الخلود الأبدي.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م