

| أفكار ونظريات | التغيير المتسارع: كيف تعيد التكنولوجيا صياغة المجتمعات؟
2025-04-26 116

التغيير المتسارع: كيف تعيد التكنولوجيا صياغة المجتمعات؟
الشيخ مقداد الربيعي
التاريخ مجرى غير منقطع من الأحداث
تعرضه تغيرات بطيئة عادة، لكن قد يكون لظاهرة معينة تأثير كبير
ومتسارع. يُقاس مقدار تأثير أي ظاهرة في مجرى التاريخ على حجم
التغيير وسرعته في المجتمع. كمقدار ما أثره انتشار المسيحية او
الإسلام من تغييرات ثقافية وحضارية كبيرة، أو ما أثرته الثورة
الصناعية في أوربا.
في زماننا الحاضر نجد وتيرة تسارع
التغيرات الاجتماعية في ازدياد مستمر مما يؤشر لوجود ظواهر كبيرة
وراءه.
وبالطبع هذه الظواهر ليست ثقافية
في نفسها، فلم تظهر خلال القرنين الماضيين أديان أو فلسفات جديدة،
وإنما هي التكنلوجيا وآثارها، والتي ألقت بضلالها على سلوك الأفراد
والمجتمعات.
الثورة الرقمية: تغيير غير مسبوق
في تاريخ البشرية
لقد أحدثت التكنولوجيا الرقمية
تغييراً يفوق في حجمه وسرعته أي تغيير حضاري سابق. يقول المؤرخ
يوفال نوح هراري في كتابه الشهير "21 درساً للقرن الحادي والعشرين":
«ما يحدث اليوم ليس مجرد ثورة تكنولوجية، بل هو ثورة في الوعي
الإنساني نفسه. فللمرة الأولى في التاريخ، تتغير سلوكيات البشر وطرق
تفكيرهم في غضون عقود قليلة وليس قرون. المعدل الزمني للتغيير
الاجتماعي أصبح أسرع من معدل التكيف البيولوجي والنفسي للإنسان».
هراري، يوفال نوح. (2018). "21 درساً للقرن الحادي والعشرين".
ترجمة: محمد عبد الرحمن.
وهذا ما يلاحظه أيضاً عالم
الاجتماع مانويل كاستلز في كتابه "عصر المعلومات" حيث يؤكد: «إننا
نعيش لحظة تاريخية حاسمة تتميز بتحول ثقافتنا المادية من خلال نموذج
تكنولوجي جديد يتمحور حول تكنولوجيات المعلومات. ولأول مرة في
التاريخ، أصبح العقل البشري قوة إنتاجية مباشرة وليس مجرد عنصر حاسم
في نظام الإنتاج». كاستلز، مانويل. (2020). "عصر المعلومات:
الاقتصاد والمجتمع والثقافة". ترجمة: حسن قبيسي. المركز الثقافي
العربي.
وسائل التواصل الاجتماعي: قوة
التغيير الاجتماعي
من أبرز مظاهر التكنولوجيا المؤثرة
في المجتمع هي وسائل التواصل الاجتماعي. يقول الباحث الاجتماعي شريف
عرفة في دراسته "تأثير شبكات التواصل الاجتماعي على العلاقات
الاجتماعية للشباب العربي": «استطاعت شبكات التواصل الاجتماعي خلال
فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز العقد الواحد أن تُحدث تغييرات اجتماعية
جذرية لم تحدثها وسائل الإعلام التقليدية خلال عقود. وأهم هذه
التغييرات هي التحول من المجتمعات المغلقة إلى المجتمعات المفتوحة،
ومن التلقي السلبي إلى التفاعل الإيجابي». "تأثير شبكات التواصل
الاجتماعي على العلاقات الاجتماعية للشباب العربي". المركز العربي
للأبحاث ودراسة السياسات.
وفي دراسة أجرتها مؤسسة بيو
للأبحاث عام 2023 بعنوان "تأثير التكنولوجيا على سلوك المراهقين"،
أشارت إلى أن: «97% من المراهقين يستخدمون الإنترنت يومياً، و88%
منهم يشعرون أن وسائل التواصل الاجتماعي غيرت أسلوب حياتهم بشكل
جذري، وأن 65% منهم يعتقدون أن هويتهم الاجتماعية تتشكل بشكل أكبر
من خلال تفاعلاتهم الرقمية وليس تفاعلاتهم الواقعية». مؤسسة بيو
للأبحاث. (2023). "تأثير التكنولوجيا على سلوك المراهقين".
واشنطن.
الذكاء الاصطناعي: تغيير جذري في
سوق العمل والاقتصاد
الذكاء الاصطناعي هو المحرك الأقوى
للتغيير في العصر الحالي. يقول كاي فو لي، رئيس معهد أبحاث الذكاء
الاصطناعي وخبير التكنولوجيا الصيني في كتابه "قفزة الذكاء
الاصطناعي": «سيكون تأثير الذكاء الاصطناعي على البشرية أعمق بكثير
من أي تقنية سابقة، بما في ذلك الكهرباء والإنترنت. وخلال العشرين
عاماً القادمة، سيؤدي إلى استبدال ما بين 40% إلى 50% من الوظائف
الحالية، مما سيخلق تحديات اجتماعية واقتصادية غير مسبوقة». "قفزة
الذكاء الاصطناعي". ترجمة: لؤي عبد المجيد السيد. الدار العربية
للعلوم ناشرون.
وهذا ما أكده أيضاً تقرير المنتدى
الاقتصادي العالمي 2024 بعنوان "مستقبل الوظائف" الذي جاء فيه:
«بحلول عام 2030، سيؤدي التقدم في الذكاء الاصطناعي إلى تغييرات
هيكلية في سوق العمل ستكون أكثر عمقاً من أي ثورة صناعية سابقة.
وستكون سرعة هذا التغيير غير مسبوقة في تاريخ البشرية، مما سيتطلب
إعادة تأهيل ما لا يقل عن 1.1 مليار عامل حول العالم». المنتدى
الاقتصادي العالمي. (2024). "تقرير مستقبل الوظائف". دافوس،
سويسرا.
الهوية الرقمية: تغير مفهوم
الذات
من التغييرات العميقة التي أحدثتها
التكنولوجيا هي تغير مفهوم الهوية الإنسانية. يقول عالم النفس
الاجتماعي شيري تيركل في كتابها "معاً ولكن وحيدون": «نحن نصمم
التكنولوجيا، ثم تصممنا التكنولوجيا. لقد أصبح هاتفنا الذكي
امتداداً لذواتنا، وأصبحت هويتنا الرقمية منافساً قوياً لهويتنا
الواقعية، بل وأحياناً بديلاً عنها. نحن الآن نتعلم كيف نعيش في
عالمين: واقعي وافتراضي، وهذا لم يحدث من قبل في تاريخ التطور
البشري». "معاً ولكن وحيدون". ترجمة: أحمد خريس. عالم المعرفة،
المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.
آثار هذه التغييرات على
المجتمع
أولاً. تفكك المؤسسات التقليدية:
يشير الدكتور سعد البازعي، أستاذ الفكر الاجتماعي في جامعة الملك
سعود، في كتابه "المجتمع في عصر الرقمنة": «إن المؤسسات التقليدية
التي استغرق بناؤها قروناً طويلة كالأسرة والمدرسة والمسجد والكنيسة
تواجه تحديات وجودية غير مسبوقة. فالمرجعيات التقليدية للقيم وتشكيل
الهوية تتراجع لصالح مرجعيات رقمية عابرة للحدود والثقافات، مما
يؤدي إلى تفكك الروابط الاجتماعية المباشرة». "المجتمع في عصر
الرقمنة". مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية،
الرياض.
ثانياً. فجوة الأجيال: لعل أبرز
التغييرات الاجتماعية التي أحدثتها التكنولوجيا هي فجوة الأجيال.
يقول الدكتور جلال أمين، الاقتصادي والمفكر المصري، في كتابه "ماذا
حدث للمصريين": «لأول مرة في التاريخ، نجد أن الأبناء أكثر معرفة
ومهارة من آبائهم في مجال يُعد محورياً للحياة العصرية. هذا
الانقلاب في المكانة المعرفية بين الأجيال أدى إلى اضطرابات عميقة
في البنية الاجتماعية وأنماط السلطة داخل الأسرة والمجتمع». "ماذا
حدث للمصريين". دار الشروق، القاهرة.
ثالثاً. تغير مفهوم الخصوصية: يقول
الباحث والمفكر السعودي فهد العرابي الحارثي في دراسته "الثقافة
الرقمية والخصوصية الاجتماعية": «لقد تغير مفهوم الخصوصية في
المجتمع العربي بشكل جذري خلال العقدين الماضيين، وهو تغير لم يحدث
على مدى قرون طويلة. فما كان يُعد من الأسرار العائلية المحظورة
أصبح مادة للنشر والمشاركة على المنصات الرقمية. هذا التحول العميق
في قيمة الخصوصية يعد من أبرز التحولات الثقافية في المجتمعات
العربية المعاصرة». "الثقافة الرقمية والخصوصية الاجتماعية". مركز
أسبار للدراسات والبحوث، الرياض.
الخلاصة: نحن في خضم ثورة
حضارية
إن التكنولوجيا الحديثة أحدثت
وتُحدث تغييرات مجتمعية تفوق في سرعتها وعمقها ما أحدثته الثورات
الدينية والفكرية الكبرى عبر التاريخ. يلخص المفكر المغربي المهدي
المنجرة في كتابه "الحرب الحضارية الأولى" هذه الحالة بقوله: «نحن
نعيش زمناً يتميز بسرعة حركة التاريخ. فما كان يستغرق قروناً من
التغيير أصبح يحدث في سنوات معدودة. ونحن لسنا في عصر التغييرات
فحسب، بل في تغيير العصر ذاته». "الحرب الحضارية الأولى". المركز
الثقافي العربي، الدار البيضاء.
هذه التغييرات المتسارعة التي
نشهدها اليوم تضعنا أمام تحديات غير مسبوقة في تاريخ البشرية. فلم
يحدث من قبل أن تغيرت أنماط الحياة والعلاقات الاجتماعية بهذه
السرعة الهائلة، وهو ما يستدعي وعياً جديداً بطبيعة هذه التحولات
وما تحمله من فرص وتحديات لمستقبل المجتمعات البشرية.
الأكثر قراءة
31249
19213
14683
11374