

| أفكار ونظريات | عقلنة النص... قراءة في جدلية النص الإسلامي والعقل المسلم

عقلنة النص... قراءة في جدلية النص الإسلامي والعقل المسلم
يشكل الفكر الإسلامي جزءا مهما من
حركة تطور الفكر الإنساني والحضاري؛ حيث شمولية رسالة الإسلام ،
ما جعل من مسألة تأثره وتأثيره في حركة الفكر الإنساني؛ أمرا
طبيعيا وواردا جدا، خصوصا بعد الطفرة الهائلة في وسائل الاتصال
وبمختلف أشكالها؛ والتي يسرت المعلومة للعالم أجمع وبكبسة زر، ومن
باب احترام العقل الذي يشكل أعظم ملكة زود بها الإنسان؛ كونه
المخاطب ـ دينيا ـ بالنظر في الآفاق وفي الأنفس لبلوغ الحقيقة
((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ
أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) (فصلت-53)، ولأجل مواكبة
التطور المتسارع في المعلومة وما يتأسس عليها من أسئلة وإشكالات
دينية عند المسلمين؛ أصبحت مسألة عقلنة النص؛ حالة ضرورية للرد
بأجوبة شافية على كل الأسئلة والشبهات العقدية والفقهية التي ترد
على الأذهان، كي تسكن النفوس وتزداد يقينا بالإسلام؛ وتبعد عنها
الحيرة من خلال الرد العقلائي، وبدون ذلك يقف المرء المسلم
في حيرة من أمره؛ يقارن بين ما مطروح عليه من معارف إسلامية،
كمسلمات أحيطت بهالة تقديس وخطوط حمراء لا يمكن المساس بها، وبين
معطيات فكرية وعلمية حاضرة تقترب أو تبتعد أو حتى تخالف ما
رسخ في ذهنه.
من هنا، تصبح عقلنة النص فيها رضا
للفضول المعرفي للمسلم، وفي كل آن يجد الجواب الشافي، خاصة وأن
عالمية الإسلام تحتم الاستجابة لحركة التطور الفكري والحضاري
ليكون تأثيرها إيجابيا عل الناس كافة ومنها حياة المسلمين الفكرية
والنفسية والاقتصادية والسلوكية؛ ويكون من الضرورة الملحة
الابتعاد عن الردود الغيبية المبالغ فيها، والتي تصل أحيانا لحد
الأسطرة، حيث المردود العكسي الذي يسبب النفور والابتعاد عن
الدين؛ خصوصا بعد موجة الإلحاد الحالية.
كما إن تراكم الخبرة المعرفية عند
المسلمين بتقادم الزمن وبتأثير الثقافات الواردة، ومن مصادر شتى؛
جعل من ثقافة الأسطورة في محل اللا نفع، ما قد يهز دين العوام
وقليلي المعرفة، لذلك من إيجابيات عقلنة النص الديني هو الحفاظ
على عقيدة الإسلام بمقاصدها الحقيقية، فضلا عن الحفاظ على المسلم
من كل هذا التشويش والتضليل المضاد.
وبمقابل ذلك، لا يمكن عقلنة النص
الديني بشكل مبالغ فيه، لن ثمة حيثيات غيبية لا تدركها العقول،
وهي المقدرة والمحدودة أصلا باستيعابها ((.........وَكُلُّ شَيْءٍ
عِندَهُ بِمِقْدَارٍ)) (الرعد-8)، كما أن مسألة العلم بالغيب
المطلق لا تدرك إلا من الإله العليم أو بإذن منه للخاصة من عباده
وببعض من الغيب ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا
السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ
الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي
السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ
وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)) (سبأ-3)، لذلك بات
اتبّاع الوسطية في عقلنة النص تشكل احترام لقدرات العقل في
الاستيعاب، خصوصا تلك التي لا يستطيع تجاوزها، وفيها منع المجحفين
بحقه من أن يضيقوا عليه ويحاصروه بالمحرمات والممنوعات تشكيكا
واستخفافا بقدراته؛ لتكون مصدا ومانعا لإبداعاته، وهذا مخالف للنص
القرآني الذي أعطاه أرفع المنازل وأكرمها حيث طالبه بالتدبر في كل
ما يرد عليه وإتباع الأحسن ((الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَـئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ
اللَّـهُ وَأُولَـئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ )) (الزمر
-18)
القرآن والتدبر في
آياته
لم يغفل القرآن الكريم من تذكير
الإنسان بكون عقله في حالة ترق مستمر، وأن هذا الترقي يدفعه لمزيد
من الأسئلة والإشكالات، ويريد لها أجوبة شافية تروي عطشه المعرفي،
وبما أن هذه الأجوبة موجودة ضمنا، بين آياته ((وَنَزَّلْنَا
عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى
وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)) (النحل-89)، وتحتاج
إعمالا للعقل فيها لتظهر للوجود، لذلك كانت دعوته للتدبر مستمرة
وعلى الدوام ((أفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى
قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) (محمد-24) حيث خزائنه التي تستوعب كل
مراحل التطور المعرفي للإنسان كونها من الله العليم المحيط، والذي
كل ما دونه متعلم منه محتاج إليه ((.........وفَوْقَ كُلِّ ذِي
عِلْمٍ عَلِيمٌ )) (يوسف-76) ولأن مجال الانتفاع منها لا انقضاء
له؛ لعلة أن لها في كل مجال معرفي؛ صولة.
وقد كان لنا في القصص القرآني
بيان وأمثلة حية؛ حيث أراد الله من هذه القصص أن يعلمنا كيفية
إعمال العقل في قبول المعلومة دون الأخذ بها كمسلمات بلا سؤال ولا
تدبر؛ وقصة نبي الله إبراهيم خير مثال، حيث سؤاله الله أن يعلمه
كيفية وآلية الخلق؛ ليطمئن بها قلبه وليؤمن إيمانا علميا
بالمشاهدة والحضور دون القبول بالغيبيات كمسلمات وبديهيات لا
تجادل، محسوب بذلك قدرته كإنسان على تعقل واستيعاب عملية الخلق
((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي
الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن
لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ
مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا واعلم
أَنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) (البقرة-260)، كذلك أراد الله
تعليم الإنسان أن توحيد الخالقية ـ وجود إله واحد ـ لا يهتدى إليه
ولا يسلم له دون البحث العقلي والفلسفي الذي تدفع له الحاجة
الفطرية التي غرزت في النفوس ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ
حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا
لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )) (الروم-30) فكان
نبي الله إبراهيم خير مصداق لهذا البحث العقلي عندما تصاعد في
هدايته حتى أقر بعجزه طالبا نصرة الهداية الإلهية في بلوغ مبتغاه،
((فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ
هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا
أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ
الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ
هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا
قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ
وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا
وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) (الأنعام
-76-77-78-79).
التطرف ودوره في تضعيف
العقل
يعمل الإسلام المنغلق وإسلام
المتطرفين على تحييد العقل وتضعيف دوره في البحث عن الحقيقة! كونه
يرى فيه الكاشف والفاضح لعوراته العقدية والفقهية، وبهذا السلوك
الذي يعتبر دفاعا غبيا عما يؤمن به، إذ لا حجة ولا دليل يقوى به
على رد هجوم العقلانيين الذين يتخذون من النص القرآني والسنة
الصحيحة الموافقة للقرآن دليل نقد لعقيدتهم، ليبطلوها، حيث
القراءات المخالفة للنص القرآني المقدس سواء في عقيدة التجسيم أو
التفويض؛ مخالفين بذلك الدعوات القرآنية التي تدعو لإعمال العقل
في مسألة التوحيد، كونه ـ التوحيد ـ يشكل الأساس الذي يبنى عليه
الدين، أما في المسائل الفقهية، فالعقل يرفض قراءة هؤلاء
المتطرفين لفكرة الجهاد ـ من باب المثال وليس الحصر ـ حيث القتل
باسم الله بحجة نشر دعوته، وهذا ما يخالف عدة نصوص قرآنية تبين أن
الدعوة لله لا تستقيم مع الإكراه ((لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ
قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّـهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّـهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ )) (البقرة-256) وأنها دعوة تستقيم بطريق الحكمة والموعظة
الحسنة ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)) (النحل-125)، كما وأن للمرء
المشيئة في قبولها أو ردها ((وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ
فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا
أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا
وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي
الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا))
(الكهف-29)، وأمر القبول أو الرد يحسم في اليوم الآخر من الله لا
غير، ولا يحق لأحد إقامة قيامة دنيوية على الناس، إذ لا تخويل
إلهي لأي أحد بذلك، وهذا ما يقبله العقل ويتوافق ورؤيته المنطقية
للأمور.
ضرورة إنصاف العقل أمام
النص
اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون
العقل بقدراته المتواضعة هو آلة كسب المعرفة للإنسان، والله
الحكيم لا عبث في خلقه حتى جعله بهذه المنزلة الرفيعة؛ إذ أنه رفع
التكليف عن المجنون الذي فقد عقله، ليكون حساب العبد مقدرا على
كبر عقله وعلى قدر استجابته لخبر السماء، فكيف يريد أن يحجم العقل
ويلغى دوره من لا حظ ولا تدبر له في كتاب الله، أ ليس هؤلاء من
الذين في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا.
كما أن الاعتراف بأحقية العقل في
محاكمة النص الوارد عليه من غير الوحي المحفوظ بحفظ الله كي يبعد
عنه وضع الوضاعين أو بدع أهل البدع وأساطير المحرفين، ولنا في قول
رسول الله صلى الله عليه واله دليل على ذلك حيث يقول كثرت الكذابة
علي؛ فمن يكذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، هذا في زمانه
فكيف من بعده.
ولا نغفل أن من العدل أن يتعقل في
النص القرآني بالعقل ويتدبر فيه، استجابة للأوامر الإلهية الداعية
لذلك وتوافقا مع كون النص القرآني يفسر بعضه بعضا كما وأن للنص
القرآني ظهرا وبطنا ويقال سبعة أظهر ومثلها بطون؛ وهذا ما يدعو
العقل لتفكيك النص والغوص في بحوره؛ بحثا عن المعاني والمقاصد
والعلل التي تكمن فيه، فضلا عن البحث عن الآيات المتشابهات في
القران الكريم وردها للمحكم؛ لفهم ما ترمي إليه وهذا كله من فعل
العقل.
وأخيرا، لازمة الإيمان بمحدودية
قدرات العقل، وأنه لا يستطيع الإحاطة بالغيب كونه خارج قدراته مما
يمنع المبالغة والشطح في قدراته وهذا هو الاعتدال الذي يعطي كل ذي
حق حقه.