12 رمضان 1446 هـ   12 آذار 2025 مـ 7:40 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | مقالات  |  ميتافيزيقا الوضعيّة وإثبات الإله..
2024-12-23   379

ميتافيزيقا الوضعيّة وإثبات الإله..


باسم الحلي

كلنّا يعرف أنّ جوهر المنطق الوضعي قائم على الحقائق النسبيّة، الحاصلة من دراسة كلّ الظواهر الماديّة والإنسانيّة على أساس العلم والتجربة، وكلّ ما عداها، من الحقائق المطلقة، والأفكار الشاملة، هي ميتافيزيقا باطلة، لا يمكن الركون إليها في بناء المعرفة الآخذة بالإنسان والمجتمع إلى حيث التطور والتقدم، كونها لا تعدو الأوهام والخرافات والأساطير..

أهمّ تطبيقات المنطق الوضعي، فيما يرى مؤسسه أوغست كونت، قانون المراحل الثلاث، الذي تأسس عليه علم الاجتماع الحديث ..

يرى الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت (1857م= Auguste Comte)  أنّ الإنسانيّة تمر بمراحل ثلاث :

الأولى: المرحلة اللاهوتيّة (اعتقاد وجود الإله بسبب العاطفة) .

الثانية :  المرحلة الميتافيزيقيّة (الاستدلال على وجود الإله) .

الثالثة: المرحلة الوضعيّة (دين الإنسانيّة) .

موجز هذه المراحل أنّ الإنسان في مبدأ وجوده، يتوهم (يتمنّى) بعاطفته وأحاسيسه، وجود المنقذ الخارق القادر على تخليصه من أعباء الحياة التي لا يقتدر عليه سواه، هذا المنقذ هو الإله، هذه هي المرحلة الأولى، والعلقة بالإله في هذه المرحلة مبنيّة على العاطفة المجرّدة عن الإثبات.

يتطوّر هذا التوهّم ليستدل أصحابه على وجود الإله، بإثباتات هي خرافة مختبرياً، وبراهين زائفة ماديّاً، لا يقرها واقع العلم والمختبر والمادّة، هذه هي المرحلة الميتافيزيقيّة.

سيعي جنس الإنسان في المستقبل شيئاً فشيئاً (المرحلة الثالثة) أنّ كلّ ما لم يقرّه التطوّر العلمي هو أوهام وخرافات (أساطير=ميتافزيقا)، ليدين بدين واحد لا غير، وهو دين الحقائق العلميّة المختبريّة..

ما إنْ يصل الإنسان إلى هذا الدين، حتّى يتخلّص من كلّ الأوهام والخرافات، ليعيش الواقعيّة بأكمل صورها، هذه هي المرحلة الوضعيّة عند كونت، أطلق عليها دين الإنسانيّة، وهي تضاهي (تقابل) الشيوعيّة عند كارل ماركس، على ما بينهما من خلاف واختلاف..

يرى كونت أنّ دراسة تطور المجتمعات يجب أن يخضع لنفس قواعد العلم المادّي وقوانين المختبر؛ فلا عبرة بكل ملاحظة وحادثة لا يشهد لها الواقع المادي في سيرورة وصيرورة المجتمعات.

هذا موجز نظرية أوغست كونت في الاجتماع، وهو أهم تطبيق للمنطق الوضعي والفلسفة الوضعيّة، والذي ينبغي معرفته أنّ قاطبة دول العالم اليورو أمريكي أشيدت عليه إجتماعيّاً ومعرفيّاً إلى اليوم، ومن آثاره فشوّ الإلحاد الغربي بشكل ملحوظ، بل وتصديره بإرادة وغير إرادة، إلى بلدان العالم الثالث المؤمنة غالباً بوجود مطلق الإله، على اختلاف أديانهم الإسلاميّة واليهوديّة والمسيحيّة والبوذيّة والمجوسيّة والصابئة وغيرها.

مصادرة كونت!!

لا ندري، هل نسي الأستاذ كونت أم تناسى، أنّ التنبّؤ الكونتي، في موت الإله عند قاطبة المجتمعات الإنسانيّة مستقبلاً، ليحل محلّه دين الإنسانيّة القائم على حقائق المختبر النسبيّة، هو الميتافيزيقا بعينها؛ فقد افترضه حقيقة شاملة مطلقة، وهي كما انتقده لينين وقاطبة أتباعه، عين الميتافيزيقا التي ما أسّس المنطق الوضعي إلّا لدحضها..

نسي الأستاذ كونت أو تناسى أنّ فلسفته الوضعيّة، الدائرة مدار الواقع الخارجي، المشادة على التغيّرات الاجتماعيّة الماديّة، تثبت وجود الإله شاء أم أبى؛ فمهما حاول كونت التنصّل من فكرة الإله بكونها خرافة؛ إلّا أنّ هذه الفكرة في مختبرات الإنسانيّة عبر التاريخ واقعٌ ثابتٌ صامدٌ دائمٌ متنام مستمرٌ..، عجزت كلّ مختبرات أوغست كونت، العلميّة والإجتماعيّة، أنْ تجزم بكونها خرافة زائلة..

 

أقلّ ما يقال أنّ المسلمين والمسيحيّين، شرقيين وغربيين، وبعضهم علماء رياضيات وفيزياء وأحياء وتاريخ واجتماع، في تزايد نامٍ ثابتٍ مستمر..

يرفض المنطق الوضعي الحقائق المطلقة، ويلتزم نسبيتها كما يفرض واقعها المختبري، ثمّ يبني عليها تطور العلم والمعرفة إذا كانت قريبة من الواقع ..

لكن مهما شككنا في شيء، ومهما قلنا بنسبيّة الحقيقة، ومهما أنكرنا إطلاقها، ومهما التزمنا بالمنطق الوضعي والفلسفة الوضعيّة؛ فإنّ نتائج المختبرات الإنسانيّة والإجتماعيّة عبر التاريخ إلى اليوم، تعلن بكلّ شموخ أنّ حقيقة الإله راسخة في التاريخ، لم نجد لها في مختبرات التاريخ، أدنى مؤشرات الموت والتلاشي، بل بالعكس هي في تنام باق مستمر في ضوء متتالية هندسيّة واثقة الخطى، منزهة عن كلّ خرافة ، أو ميتافيزيقيّة كما يشتهي أن يسميها كونت..

المنطق الوضعي بين أمرين، لا ثالث لهما:

الأوّل: أن ينفي وجود الإله مستقبلاً، ولا طريق له غير التنبوء، وهذا عين الميتافيزيقا، التي ما أسس المنطق الوضعي إلّا لدحضها، وهذا من كونت إعدام لمنطقه لفلسفته الوضعيّة بمقصلة المنطق الوضعي نفسه.

الثاني: أنْ يعترف بوجود الإله؛ لأنّ المختبر الإنساني عبر تاريخ المجتمعات الإنسانيّة المؤمنة بوجود الإله، وهي الأكثر الأغلب دائماً قياساً بالملاحدة، أثبت وجوده بكلّ شموخ علمي.

على كلا الفرضين؛ فإنّ الإله في مختبر التاريخ حقيقة واقعة حيّة ناميّة نابضة باقية مستمرة إلى اليوم، لا يمكن المساس بحرمتها، إلّا بالتنبوء الكونتي، وهو عين الميتافيزيقا (الخرافة) عدوّ الوضعيّة اللدود.

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م