

| مقالات | البلاء بين الاختبار والعقاب: رؤية قرآنية في فلسفة الابتلاء

البلاء بين الاختبار والعقاب: رؤية قرآنية في فلسفة الابتلاء
الشيخ معتصم السيد احمد
إن
طبيعة حياة الإنسان في هذه الدنيا تقوم على أساس وجود مهمة يجب عليه
تحقيقها، وقد أوضح القرآن الكريم هذه المهمة بوضوح حين قال: (وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، فالعبادة هنا
لا تقتصر على أداء الشعائر الدينية فحسب، بل تشمل المنهج العام الذي
يحدد مسار حياة الإنسان، بحيث تتناغم إرادته مع إرادة الله سبحانه
وتعالى، فيصبح سلوكه انعكاساً للقيم الإلهية. ويتجلى ذلك في طريقة
تعامل الإنسان مع أحداث الحياة المختلفة، إذ لا يكون سلوكه رهيناً
للظروف المتغيرة، بل يستند إلى مبادئ راسخة نابعة من إيمانه بالله
وكمال صفاته، فيظل ثابتاً على القيم الإلهية في جميع الأحوال، سواء
في أوقات الرخاء أو الشدة.
من هذا المنطلق، فإن سنن الحياة تقتضي أن لا تكون على وتيرة واحدة، بل تتنوع وتتغير لتشكّل اختباراً مستمراً لإرادة الإنسان ومدى صبره وثباته أمام التحديات. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه السُّنة الإلهية في قوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)، حيث تبيّن هذه الآية أن الإيمان ليس مجرد ادعاء، بل لا بد من اختباره من خلال البلاء والفتن، سواء في السراء أو الضراء، في الصحة أو المرض، في الغنى أو الفقر.
الابتلاء وتأثيره على سلوك الإنسان
إن طبيعة الابتلاء في الحياة واحدة، إذ لا تقتصر المحن والشدائد على فئة معينة من الناس دون غيرهم، بل تمتد لتشمل الجميع، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين. فكما أن المرض والفقر والمصائب قد تصيب المؤمن، فإنها قد تصيب غيره أيضاً، لكن الفارق الجوهري لا يكمن في طبيعة الحدث نفسه، بل في الكيفية التي يستجيب بها الإنسان لهذا الابتلاء. فالمؤمن الواعي يدرك أن الابتلاء جزء لا يتجزأ من سنن الحياة التي تهدف إلى اختباره وتهذيب نفسه وتمحيص إيمانه، لذلك يستقبله بروح الصبر والثبات، ويراه فرصة للارتقاء في مراتب القرب من الله، انطلاقاً من إيمانه العميق بأن كل ما يصيبه، سواء كان خيراً أم شراً، إنما هو ضمن حكمة إلهية شاملة. وقد جسد الحديث النبوي هذا الفهم بقوله: "عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"
وفي المقابل، فإن من يفتقد إلى البصيرة الإيمانية يرى في الابتلاء مجرد عقوبة عشوائية أو ظلماً أصابه بغير سبب، فيتلقاه بالجزع والاعتراض، مما يزيده اضطراباً نفسياً وسخطاً على الواقع. فهو لا يستطيع استيعاب الحكمة الكامنة وراء هذه المحن، ولا يرى فيها سوى معاناة لا معنى لها، الأمر الذي يدفعه إلى الغرق في الألم واليأس. بينما المؤمن، حتى لو تعرض لنفس الظروف الصعبة، فإنه يستثمرها في تعزيز صبره وتقوية إرادته وإثبات صدقه في التوكل على الله، الأمر الذي يجعله يخرج منها بنمو روحي وارتقاء معنوي. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الفارق العميق بين الطريقتين في التعاطي مع الابتلاء، حيث يقول تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، حيث تعكس هذه الآيات موقف المؤمن المتجاوز للآلام الدنيوية، فهو يرى في البلاء فرصة للتزود بالصبر والاستقامة، ويستقبل المحنة برؤية إيمانية تجعله أكثر قدرة على استيعاب أبعادها، فيحصد ثمارها الروحية من الرحمة الإلهية والهداية.
وهكذا، فإن الابتلاء، رغم كونه تجربة مؤلمة، يبقى فرصة لصقل النفوس واختبار حقيقتها، وهو الذي يحدد مسار الإنسان في حياته، إما نحو مزيد من الوعي والنضج الإيماني، أو نحو التيه والضياع، وفقاً للكيفية التي يتعامل بها معه.
الابتلاء وسُنّة التهذيب والتمييز بين البشر
يمثل الابتلاء أداة إلهية دقيقة لتمييز البشر، فهو ليس مجرد حدث عابر في حياة الإنسان، بل اختبار يكشف عن مدى ثباته على المبادئ وقوة إرادته في مواجهة الصعاب. فمن السهل على الإنسان أن يدعي الإيمان واليقين في الظروف المريحة، لكن المحن وحدها هي التي تبرهن على صدق هذا الادعاء، وتفصل بين من يحمل إيماناً حقيقياً وبين من يتراجع عند أول اختبار. وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) وقال: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)، إذ يوضح أن الفتن والابتلاءات ليست سوى محكّات للتمييز بين الصادقين في إيمانهم وبين من لا يحملونه إلا ظاهرياً.
ولا يقتصر الابتلاء على كشف حقيقة الإيمان فقط، بل يشمل أيضاً اختبار مدى التزام الإنسان بالمبادئ الأخلاقية في المواقف الصعبة. فقد يتحدث الكثيرون عن الصبر والتضحية والإيثار، لكن لا يتجلى صدق هذه القيم إلا حين يجد الإنسان نفسه في موقف يتطلب منه التضحية الحقيقية أو الصبر على المشقة. وهكذا، فإن الابتلاء لا يكشف فقط عن البعد العقدي للإنسان، بل يكشف أيضاً عن جوهر أخلاقه وسلوكه العملي في الحياة.
كما أن الابتلاء يُظهر مدى استقامة الإنسان وثباته في مواجهة الإغراءات والضغوط، فمن الناس من تستهويه ملذات الدنيا وزخارفها، فلا يصمد أمام فتنة المال أو الجاه، فينحرف عن مبادئه، ومنهم من تثبته القيم الإلهية فلا تغريه الدنيا عن الحق. وهكذا، فإن المحن والاختبارات تعمل على غربلة المجتمع، ليبرز أهل الصدق والإخلاص، في حين ينكشف أهل الزيف وضعف الإرادة، فيصدق عليهم قوله تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).
وبذلك، فإن الابتلاء لا يأتي عبثاً، وإنما هو ضرورة لا غنى عنها لتحقيق التمايز بين الناس، فمن ينجح في اختبارات الحياة يكون قد أثبت استحقاقه لمقامات القرب الإلهي، ومن ينهار تحت وطأتها يكشف عن ضعف يقينه وهشاشة مبادئه، فيكون الابتلاء نفسه دليلاً على حقيقته، سواء في الثبات أو التخاذل.
البلاء بين الرحمة والعقوبة
من الضروري فهم أن الابتلاء ليس دائماً علامة على الغضب الإلهي أو عقوبة على الذنوب، بل قد يكون تعبيراً عن رحمة الله بعباده، ووسيلة لرفع درجاتهم وتطهير نفوسهم من الأدران. فقد ورد عن أهل البيت (ع) أن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، وذلك ليضاعف له الأجر ويهذّب روحه، فيكون الابتلاء حينها سُلَّماً للارتقاء الروحي وفرصةً لمزيد من التقرب إلى الله. وهذا ما نجده في سيرة الأنبياء والصالحين، الذين واجهوا أشدّ أنواع المحن، لا عقاباً لهم، بل اختباراً يعزز صبرهم ويرفع مكانتهم.
لكن في المقابل، قد يكون البلاء صورةً من صور العقوبة الإلهية التي تصيب الإنسان نتيجة أفعاله، سواء كان ذلك في الدنيا أو مؤجلاً إلى الآخرة. وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، إذ يوضح القرآن أن بعض المصائب قد تكون انعكاساً لما جناه الإنسان من أعمال، وهي بمثابة إنذار وتنبيه ليعود إلى رشده قبل أن يحل عليه العذاب الأكبر. فهذه الابتلاءات التحذيرية تُعدّ من تجليات عدل الله ورحمته، لأنها تمنح الإنسان فرصةً للتوبة وتصحيح مساره قبل أن يواجه الحساب النهائي.
وهكذا، فإن البلاء في ميزان الحكمة الإلهية يتراوح بين كونه أداةً للرحمة والتهذيب، وبين كونه وسيلةً للعقوبة والإنذار، ويظل الموقف الحقيقي للإنسان تجاهه هو الذي يحدد أثره عليه، سواء كان سُلَّماً للارتقاء، أو دافعاً للانتباه، أو علامةً على الاستحقاق الإلهي للعقوبة.
خاتمة: كيف ننظر إلى البلاء؟
إن البلاء سنة إلهية لا بد لكل إنسان أن يمر بها، ولكن الفارق يكمن في نظرة الإنسان لهذا البلاء، فإما أن يراه امتحاناً يرتقي به إلى مراتب الكمال، فيتعامل معه بالصبر والتسليم لأمر الله، وإما أن يراه مجرد نقمة لا هدف لها، فيتلقاه باليأس والاعتراض. ومن هنا، فإن فلسفة الابتلاء تعتمد على الإيمان والتسليم بحكمة الله، وهو ما يجعل الإنسان قادراً على تجاوز المحن بنفس مطمئنة ووعي متكامل لأبعادها.