

| مقالات | جدال بغير علم: تشخيص قرآني لحالة الإلحاد المعاصر
2025-06-19 95

جدال بغير علم: تشخيص قرآني لحالة الإلحاد المعاصر
الشيخ مقداد الربيعي
في كتاب الله العزيز إشارة بالغة
الدلالة: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ
عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ)، الحج: 8. تُطالعنا هذه
الآية بتشخيص دقيق لحالة الإلحاد المعاصر: جدل فارغ من العلم
الحقيقي، مُشبع بالدوافع الاجتماعية والثقافية المُتنكرة في زي
العلمية.
حين نُمعن النظر في مسيرة الحضارة
الإنسانية، تبرز حقيقة صادمة: الإلحاد حالة إدراكية لم تتمتع بأي
رسوخ نوعي في الوعي الجمعي الإنساني؛ فهي حالة تعاود الظهور كزعانف
سمك القرش وسط بحر الدين الهادر. إنها ظاهرة شاذة تطفو على سطح
التاريخ البشري كموجات عابرة، لا كتيار أساسي.
السؤال المحوري يفرض نفسه بقوة: لو
كنا حقاً أبناء الطبيعة الخُلَّص، وأحفاد الكون الشرعيين، المنحدرين
من صلبه هل كان سيفتقر خيار الإلحاد إلى مكابدة أم كان سيكون فطرة؟
التاريخ يُجيب بوضوح: الإيمان هو السجية الإنسانية الأصيلة، بينما
الإلحاد يحتاج إلى تكلف وإجهاد فكري مُصطنع.
ما نواجهه اليوم ليس تطوراً علمياً
طبيعياً، بل ظاهرة طارئة حفّزتها مثيرات مرهونة بسياق حضاري معين هي
في علاقتها بنتائجها أشبه ما تكون بارتباط بافلوف الشرطي، فقط أزل
المثيرات أو خففها تزول الاستجابة أو تقل والعكس. هذا يكشف طبيعة
الإلحاد كرد فعل مشروط، وليس نتيجة منطقية للتقدم المعرفي.
المفكر هيوستن سميث يُشخص الداء
بدقة حين يتحدث عن "تحول أمل الإنسان من السماء إلى الأرض"، وهو
مشروع اجتماعي يسعى إلى "سوق مشروع التحرر والاستقلال بل الانحلال
إلى محطته الأخيرة". هكذا يتضح أن الإلحاد ليس اكتشافاً علمياً،
وإنما برنامج اجتماعي للانفلات من الضوابط الأخلاقية.
تبرز مفارقة مُذهلة حين نقارن بين
العالم الحقيقي وأدعياء العلم، فتشارلز دارون حیال مسألة وجود
الخالق أفضل حالاً وأكثر اتزاناً من كثير من تلامذته المتأخرين،
سواءً في معتقده أو لغته أو حتى أدبه. بينما يخشى فرسان الإلحاد
الجديد أن تفرط منهم عبارة تمنح الإيمان أدنى مشروعية، ويحتاطون
لهذا أشد الاحتياط، نجد دارون يعطي درساً في الشفافية فيعلن بكل
أريحية: «أما وجود حاكم للكون فهذا مما دانت به جموع من أعظم العقول
التي وجدت على الإطلاق».
هذا التباين الصارخ يُظهر أن
"فرسان الإلحاد الجديد" (ريتشارد دوكنز وهاريس ودانييل دينت
وهاتشنز) ويتجاوزون حتى مؤسس نظريتهم المفضلة في التطرف والانغلاق
الفكري.
رغم أن الإلحاد مجرد "وعي محدث"
و"إفراز حضاري متوقع"، تُصيبنا الدهشة من هذا المشهد: المرء ليتملكه
العجب من هذه الثقة المبرمة - على الأقل فيما يبدو ـ لدى الملحد
الجديد في أصالة الفكرة الإلحادية؛ بل الأغرب والأعجب ثقة قطاع واسع
من الأتباع لا في براهين أو أدلة متبوعيهم، فإن المقلدين لا اجتهاد
لهم، وإنما ثقتهم الواثقة في ثقة من يتبعون.
هنا تكتمل الصورة: الإلحاد المعاصر
يقوم على التبعية العمياء لا على التحقيق العلمي، مُجسداً تماماً ما
وصفته الآية الكريمة من جدال "بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا
كِتَابٍ مُّنِيرٍ".
الإلحاد المعاصر يقف أمامنا عارياً
من الأدلة العلمية، مُتدثراً بأقنعة اجتماعية وثقافية. إنه ليس ثمرة
للتقدم المعرفي، بل رد فعل اجتماعي على ظروف حضارية مُحددة. التاريخ
الإنساني والفطرة البشرية يشهدان بأن الإيمان هو الأصل، والإلحاد
انحراف مؤقت. والقرآن الكريم يُذكرنا بأن هذا الجدال يتم (بِغَيْرِ
عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ)، مؤكداً أن الإلحاد
موقف أيديولوجي مُتنكر في ثوب العلم، وليس حقيقة علمية.
الأكثر قراءة
32354
19387
14896
11613