2 محرم 1447 هـ   28 حزيران 2025 مـ 1:27 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | مقالات  |  هل الإلحاد فطرة أم فلسفة؟ مساءلة الدعاوى وتحليل الأسس
2025-06-22   77

هل الإلحاد فطرة أم فلسفة؟ مساءلة الدعاوى وتحليل الأسس


الشيخ معتصم السيد أحمد
يتكرر في الخطاب الإلحادي المعاصر ادعاء مفاده أن الإلحاد لا يحتاج إلى إثبات، بل هو الحالة الأصلية والفطرية التي يولد عليها الإنسان، بينما يقع عبء الإثبات على عاتق المؤمن الذي يفترض وجود إله. هذه الفكرة تبدو جذابة في ظاهرها، لأنها توحي بالحياد والبراءة الفطرية من كل التزام ديني، لكنها تتجاهل طبيعة الإلحاد كموقف معرفي وفلسفي متكامل، لا يقل في ادعاءاته عن الإيمان، بل يطالبه المنطق بنفس درجة الإثبات والتبرير. فهل حقاً يولد الإنسان بلا تصوّر غيبي؟ وهل يمكن للإلحاد أن يُفهم على أنه حالة حياد معرفي أم أنه رؤية فلسفية تتطلب تفسيراً شاملاً للوجود؟ هذا ما نحاول تبيينه من خلال تفكيك الادعاء الإلحادي وتحليل ما يستلزمه من مواقف علمية وفكرية.

فهذا الادعاء يتجاهل أن الإلحاد ليس مجرد غياب للإيمان، بل هو موقف فلسفي يتطلب تقديم تفسيرات مادية متماسكة لنشأة الكون والحياة والوعي، وهي تفسيرات لم تثبت قدرتها على الاستغناء عن وجود خالق. ولتوضيح ذلك سنذكر مجموعة من النقاط.

أولاً، القول بأن الإلحاد هو "الحالة الفطرية" التي يولد عليها الإنسان مجرد أدعاء ليس إلا، فالدراسات في علم النفس والتاريخ البشري تشير إلى أن البشر عبر العصور كانوا ميالين للاعتقاد بوجود قوة عليا أو كائن متعالٍ، وعلم النفس التطوري يشير إلى أن الميل إلى الإيمان بوجود خالق أو قوى غيبية قد يكون جزءاً من البنية الإدراكية للإنسان، وليس مجرد اكتساب ثقافي.

أما الإلحاد، فهو موقف يتطلب رفض الاعتقاد بوجود إله، وهو ليس موقفاً "محايداً" أو "أصلياً" يولد عليه الإنسان، بل ينتج عن عملية تفكير وتحليل للمعتقدات الدينية ومحاولة استبدالها ببدائل مادية أو طبيعية. ولذلك، القول بأن الإنسان يولد بلا اعتقاد ديني هو خلط بين غياب المعرفة والاتجاه الفلسفي الواعي الذي يتبناه الشخص فيما بعد.

ثانياً، القول بأن الإلحاد "لا يستلزم" نظريات مثل التطور أو نشأة الكون يتجاهل أن الإلحاد موقف يحتاج إلى تفسير للكون والوجود بدون اللجوء إلى إله أو قوة خارقة. فالإلحاد كنظرة للواقع يعتمد على تفسير مادي بحت للكون، ومن هنا فإنه مضطر لاحتضان نظريات علمية معينة لتفسير الظواهر التي كانت تُفسَّر سابقاً بوجود خالق ومن ذلك:

نظرية التطور: الإلحاد يقتضي رفض التفسير الديني لنشأة الإنسان، ولذلك فإن الإلحاد المعاصر يعتمد على نظرية التطور لتفسير نشوء الحياة وتنوعها دون الحاجة إلى خالق. حتى لو لم يكن كل ملحد متخصصاً في علم الأحياء، إلا أن الإلحاد نفسه يعتمد على التطور ليشرح كيف نشأت الكائنات الحية دون تدخل إلهي.

نظرية الجاذبية والفيزياء الكونية: الإلحاد لا يمكنه تجاهل حقيقة أن قوانين الفيزياء يجب أن تفسر نشأة الكون وتطوره. فبدلاً من الإيمان بأن الله هو من وضع قوانين الكون، يسعى الإلحاد إلى تفسير نشأة الكون عبر آليات طبيعية بحتة مثل الانفجار العظيم والتضخم الكوني. ولذلك، فإن الإلحاد يحتاج إلى تفسيرات مادية بحتة، وإن لم يكن كل ملحد فيزيائياً، فإنه مضطر لقبول هذه النظريات كأساس لرؤيته للعالم.


نشأة الكون: الإلحاد لا يقتصر فقط على رفض الإله، بل يجب أن يقدم تفسيراً بديلاً لكيفية نشوء الكون. نظراً لأن الكون لم يكن موجوداً في وقت ما، فإن رفض وجود خالق يتطلب تفسير كيفية نشأته تلقائياً عبر قوانين الطبيعة وحدها، وهو ما تحاول نظريات مثل "الكون من لا شيء" أو "الفراغ الكمي" تقديمه. إذاً، الإلحاد لا يمكنه أن يكون موقفاً مجرداً من هذه القضايا العلمية، بل يحتاج إلى تفسيرات طبيعية لكل الظواهر التي يرفض تفسيرها دينياً.

ثالثاً، القول بأن الإيمان "يتطلب أدلة وبراهين" بينما الإلحاد هو "الحالة الطبيعية" يعكس تحيزاً غير موضوعي. في الواقع، الإيمان بالله أو بالقوة الغيبية هو جزء من الفطرة البشرية، وهذا ما تدعمه الدراسات الأنثروبولوجية والنفسية التي تشير إلى أن الأطفال يميلون تلقائياً إلى الاعتقاد بأن العالم له غرض وأن الأحداث الكبرى لها سبب غير مادي. حتى التجارب مع الأطفال الصغار أظهرت أنهم يفترضون وجود "مصمم ذكي" للأشياء المعقدة في الطبيعة.

من هنا، فإن الإيمان لا يبدأ من العدم ولا يحتاج إلى "إثبات" بنفس الطريقة التي يحتاج فيها الإلحاد إلى إثبات بديل لتفسير الظواهر. بل على العكس، إنكار وجود الله هو الذي يتطلب تقديم تفسير مادي شامل يغطي كل شيء، من نشأة الكون إلى الأخلاق إلى الوعي البشري.

فبعض الملاحدة يدّعون أن عبء الإثبات يقع فقط على المؤمنين، لكن هذا غير دقيق فلسفياً؛ لأن الإلحاد ليس مجرد "غياب الإيمان"، بل هو تبني رؤية محددة للكون والوجود تنفي وجود إله. وبما أن الملاحدة يقدمون تفسيرات بديلة للظواهر الطبيعية والأخلاقية والمعرفية، فهم أيضاً مطالبون بتقديم أدلة على صحة مواقفهم.

 على سبيل المثال: إذا قال الملحد إن "الكون نشأ من لا شيء"، فعليه أن يثبت كيف يمكن للعدم أن ينتج شيئاً.

إذا قال الملحد إن "الأخلاق مجرد تطور اجتماعي"، فعليه أن يفسر لماذا نشعر بأن بعض الأفعال شريرة بذاتها، وليس فقط لأنها ضارة بالمجتمع.

إذا قال الملحد إن "الوعي مجرد عملية دماغية"، فعليه أن يفسر كيف تنشأ الذاتية والشعور من تفاعلات مادية بحتة.

وعليه، إن المراجعة المنطقية والعلمية لمقولة "الإلحاد هو الحالة الفطرية" تكشف عن هشاشتها المفهومية، وتبين أنها لا تصمد أمام البحوث النفسية والأنثروبولوجية التي تؤكد نزوع الإنسان الفطري إلى الإيمان. فالإلحاد ليس حالة سلبية من الغياب، بل رؤية فلسفية بديلة تُحمّل نفسها عبء تفسير شامل للوجود في غياب الخالق، وهو ما يجعله في موقع المطالب بالدليل لا المتفرج الحيادي. وإذا كان من الضروري مساءلة المعتقدات الدينية، فإن من الإنصاف أيضاً أن تُساءل المواقف الإلحادية، لا أن تُفترض كواقع أولي لا يحتاج إلى برهان. فالعقل الحر لا يُسلِّم بشعار، بل يطلب الحجة من الجميع.

في المحصلة، الإلحاد ليس "الحالة الفطرية" للإنسان، بل هو موقف فلسفي يتطلب تبني رؤية مادية بحتة للكون والوجود. كما أنه لا يمكنه أن يكون منفصلاً عن النظريات العلمية التي تفسر نشأة الكون والحياة، بل يحتاج إليها كبديل للتفسيرات الدينية. أما الإيمان، فله أساس فطري وبديهي، ولا يحتاج إلى "إثبات" بقدر ما يحتاج الإلحاد إلى تفسير شامل بديل لكل الظواهر التي يرفض التفسير الديني لها.

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م