

| مقالات | هل يبني الإسلام الإنسان أم يصادر حريته؟ قراءة في شمولية التوجيه الديني
2025-06-23 39

هل يبني الإسلام الإنسان أم يصادر حريته؟ قراءة في شمولية التوجيه الديني
الشيخ معتصم السيد أحمد
من القضايا المثارة بين حين وآخر
في النقاشات الفكرية المعاصرة، سؤال محوري حول موقع الإنسان في
النظام الإسلامي: هل يبني الإسلام شخصية الإنسان ويُطلق طاقاته، أم
أنه يصادر حريته ويكبّل إرادته بتفاصيل لا تنتهي من التشريعات
والأوامر والنواهي؟
ينبع هذا التساؤل من ملاحظة ظاهرة
متكررة، وهي أن الإسلام – بخلاف كثير من الأديان الأخرى – لا يقتصر
على توجيه الإنسان روحياً، بل يدخل في تفاصيل حياته الدقيقة، من
مأكله ومشربه وملبسه، إلى تعامله المالي، وسلوكه الاجتماعي، وحتى
مزاجه النفسي. فهل هذه الشمولية دليل كمال، أم وجه من وجوه السيطرة
على الذات الإنسانية؟
إن أول ما ينبغي التنبيه عليه هو
أن هذا التصور القائل بأن الإسلام يتفرد بالتدخل في حياة الإنسان
بشكل صارم هو تصور مضلل، يغفل عن حقائق دينية وتاريخية كثيرة. فليست
الأديان الأخرى محصورة دائماً في الجانب الروحي أو التأمل الباطني،
بل إن معظم الأديان النشطة والفاعلة في مجتمعاتها – كاليهودية
الأرثوذكسية، والهندوسية، والبوذية – تتضمن نظماً تفصيلية للحياة
اليومية، من اللباس إلى الطعام، إلى السلوك الاجتماعي. ففي اليهودية
على سبيل المثال، نجد منظومة شديدة الدقة من الأحكام المتعلقة
بالكشروت (الطعام الحلال)، والطهارة، والختان، وأيام الراحة، وغيرها
من تفاصيل الحياة اليومية. وفي الديانات الشرقية، كالطاوية
والبوذية، نجد طقوساً تشمل كل شيء، حتى أسلوب المشي والكلام. فلا
خصوصية هنا للإسلام من حيث "دخوله في التفاصيل"، بل الخصوصية في
رؤيته المتكاملة والمبنية على نسق قيمي شامل.
هذه الرؤية المتكاملة تنبع من
التصور الإسلامي للإنسان، لا بوصفه روحاً فقط، ولا مادة فقط، بل
كائناً مركباً من عقل وروح وجسد. ومن هذا المنطلق، فإن أي دين يروم
إصلاح الإنسان وإيصاله إلى الكمال لا يمكن أن يهمل أحد هذه الأبعاد
الثلاثة، ولا يمكن أن يترك حياة الإنسان العملية عرضة للفوضى أو
خاضعة لأهواء السوق أو الأفراد. لهذا فإن ما يبدو "تدخلاً زائداً"
في تفاصيل الحياة هو في جوهره تنظيم عقلاني وأخلاقي لشؤون الإنسان
اليومية، يراد به تحقيق التوازن والسمو، لا القيد أو الحجر.
فحين يضع الإسلام أحكاماً للطعام
والشراب، فهو لا يهدف إلى فرض نمط غذائي مقيّد، بل يسعى إلى ضبط
شهية الإنسان وحمايته من الإفراط أو تناول ما يضره جسدياً أو
أخلاقياً، كما هو الحال في تحريم الخمر أو الميتة أو الدم. كذلك فإن
التوجيهات المتعلقة باللباس لا تنبع من رغبة في السيطرة على ذوق
الإنسان، بل من اهتمام بالستر والحياء والهوية، مع ترك مساحات واسعة
للتنوع والاختيار. وفي الشأن المالي، فإن تحريم الربا والاحتكار
وأكل أموال الناس بالباطل ليس تدخلاً عبثياً، بل هو حماية للفرد
والمجتمع من الجشع والاستغلال، وهي أهداف تسعى إليها حتى أكثر
الأنظمة الاقتصادية حداثة، وإن اختلفت الوسائل.
لكن الأهم من ذلك، هو الرد على
الزعم بأن هذه الشمولية تمسخ عقل الإنسان وتمنعه من التفكير الحر.
إن هذا الادعاء يعكس فهماً مبتوراً لطبيعة العلاقة بين الإنسان
والدين في الإسلام. فالإسلام لا يعطل العقل، بل يجعله أساساً
للتكليف، ويحث عليه في مئات الآيات، بدءاً من أول خطاب قرآني وُجِّه
إلى النبي: ﴿اقْرَأْ﴾، إلى الآيات التي تكررت فيها دعوات "التفكر"
و"التعقل" و"التدبر" و"السير في الأرض". فالإنسان في الإسلام مدعوّ
لأن يفهم، لا أن يُقلّد، وأن يبني إيمانه على البصيرة، لا على
التبعية العمياء.
بل إن من يتأمل في سيرة النبي
الأكرم صلى الله عليه وآله وسيرة أهل البيت عليهم السلام يجد أنهم
ربّوا أصحابهم على التفكير والنقاش والتأمل، ولم يصنعوا منهم جنود
طاعة صامتة. وكذلك نجد أن أبرز العلماء والمفكرين والفلاسفة
المسلمين عبر التاريخ لم يكونوا من أبناء العلمنة أو التمرّد، بل
كانوا من صميم العقل الديني، وقد أبدعوا وناقشوا وأسسوا لعلوم في
الفقه والفلسفة والكلام والرياضيات والفلك، وكل ذلك وهم يعيشون ضمن
منظومة تشريعية إسلامية دقيقة.
والقول بأن التوجيهات الدينية تمحو
الذات وتلغي الفردانية، يتجاهل أن كثيراً من الأفراد في المجتمعات
الحديثة – التي يُفترض أنها أكثر تحرراً – يعانون من ضياع هويتهم
وسط ضغوط السوق والإعلام والتكنولوجيا. إن "الحرية" التي لا تصنع
منهاج حياة، كثيراً ما تتحول إلى فوضى داخلية، وتشتت وجودي، أو
تبعية لسلطات ناعمة تفرض نمط الحياة من خلال الاستهلاك أو الدعاية
أو الموضة أو الإعلام.
ثم إن الإسلام لا يفرض على الإنسان
نمطاً موحداً في كل شيء، بل يضع له إطاراً عاماً، يلتزم فيه بالقيم
الكبرى، ويترك له فسحة واسعة في التفاصيل. فليس في الإسلام لون معين
للملابس، ولا نوع معين من المأكولات (ما دامت حلالاً)، ولا طريقة
واحدة للحديث أو السكن أو السفر أو المعاملة.
كل ذلك مما يُترك فيه للعرف والذوق
والعقل البشري مجالاً واسعاً، بشرط أن لا يُناقض مقاصد الشريعة.
وهذا ما يجعل التشريع الإسلامي أكثر مرونة وواقعية مما يُظَن، وأقدر
على الاستمرار في البيئات المختلفة دون أن يُفقد جوهره.
ولعل من المغالطات المتكررة، الخلط
بين "الحرية" و"الانفلات". فكل مجتمع، أياً كان نوعه، يفرض على
أفراده ضوابط وحدوداً. لا توجد حرية مطلقة في أي نظام اجتماعي.
السؤال الأهم هو: من يضع تلك الحدود؟ ومن يضمن أنها عادلة؟ في
المجتمعات الليبرالية، توضع الحدود باسم القانون أو الذوق العام أو
العقد الاجتماعي. أما في الإسلام، فالمصدر هو الوحي، وهو ما يضفي
عليها طابعاً قدسياً ويجعلها خاضعة لمعايير الحكمة الإلهية لا
لمصالح الفئات أو هيمنة المؤسسات.
وهنا تتضح ميزة النظام الإسلامي:
إنه لا يلغي حرية الإنسان، بل يوجّهها، ولا يصادر إرادته، بل
يهذبها. الإسلام لا يريد من الإنسان أن يكون كائناً متمرداً لا
يعترف إلا بذاته، ولا يريد منه أن يكون مخلوقاً مستسلماً للواقع، بل
إنساناً راشداً يملك القرار، ويعرف أن لحريته غاية، وأن وراء الحياة
معنى.
في النهاية، يمكن القول بأن
الشمولية الإسلامية ليست عبئاً على الإنسان، بل هي منهج حياة شامل،
يعينه على أن يعيش بانسجام بين جسده وروحه، بين دنياه وآخرته، بين
حريته الفردية ومسؤوليته الاجتماعية. هذه الشمولية لا تمسخ الإنسان،
بل تصقله، وتعيد له توازنه، وتمنحه وعياً يتجاوز حدود اللحظة واللذة
العابرة. إنها ليست خصماً للحرية، بل حارس لها من أن تتحول إلى
عبودية مقنّعة للنفس أو للناس.
وهكذا، فإن الإسلام حين يوجّه
الإنسان في كل جوانب حياته، لا يُقصيه عن ذاته، بل يعيده إليها،
ويعرّفه على قدره، ويدفعه لأن يكون فاعلاً لا منفعلاً، مسؤولاً لا
منساقاً. ومن ظنّ أن الالتزام يُميت العقل، فليراجع نفسه، إذ قد
يكون العقل الذي يرفض الضبط هو ذاته الذي يخشى الحرية
الحقيقية.
الأكثر قراءة
32354
19387
14896
11613