2 محرم 1447 هـ   28 حزيران 2025 مـ 2:27 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | مقالات  |  عندما أعلن العالم موت الإله: دروس من التاريخ
2025-06-23   47

عندما أعلن العالم موت الإله: دروس من التاريخ


الشيخ مقداد الربيعي
في عام 1966، صدمت مجلة "التايم" الأمريكية العالم بعنوان جريء على غلافها: "هل مات الله؟" لكن بعد إحدى عشرة سنة فقط، في عام 1977، ظهر عنوان مختلف تماماً على نفس المجلة: "موت ماركس".

هذا التغيير الجذري لم يكن مصادفة، بل كان اعترافاً صريحاً بأن فكرة إنكار وجود الله أثبتت أنها فكرة مدمرة للبشرية نفسها. فقد أدرك المفكرون والكتاب، بعد تجربة مريرة امتدت عقوداً، أن عواقب هذا الإنكار ستخترق كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية.

نبوءات نيتشه المظلمة تتحقق
الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه، الذي أعلن "موت الله"، لم يكن يتوقع أن تكون نبوءاته دقيقة إلى هذا الحد المرعب. فقد توقع أمرين مهمين:

النبوءة الأولى: أن القرن العشرين سيكون أكثر القرون دموية في التاريخ. وهذا بالضبط ما حدث، حيث شهد هذا القرن حروباً ومذابح لم تشهد البشرية مثلها من قبل، وسُفكت فيه دماء تفوق ما سُفك في جميع القرون السابقة مجتمعة.

النبوءة الثانية: أن حالة من الجنون والفوضى الأخلاقية ستنتشر في العالم. وهذا أيضاً ما نراه اليوم من انتشار مظاهر الانحلال والرذيلة بأبشع صورها.

ولم يقف المفكرون والعلماء مكتوفي الأيدي أمام هذا الانهيار، بل حذروا البشرية من الهشاشة والضعف الذي يصيب أي مجتمع يتخلى عن الإيمان بالله. ومن أبلغ هذه التحذيرات ما قاله الفيلسوف الإنجليزي تشسترتون: «إن الإيمان بعدم وجود الله يشبه من استيقظ في صبيحة أحد الأيام ونظر في المرآة ولم يرَ شيئاً. فحيث يغيب الانعكاس، ويغيب الإدراك، وتغيب معرفة الإنسان بذاته نهائياً، لن يكون هناك أي معيار يقيس المرء نفسه عليه، ولن يوجد أي شيء يعمل المرء على تعديله. ومن ثم تصبح مقولة سقراط الشهيرة 'اعرف نفسك' مستحيلة.».

والحقيقة أن التاريخ المعاصر يؤكد صحة هذا التحذير. فما خلّفه نيتشه من يأس وشعور منحرف بالتفوق كان السبب المباشر في ظهور مظاهر العنف وغياب الأخلاق الإنسانية والرحمة. لم ينتج عن هذا الفكر "الإنسان الأعلى" كما زعم نيتشه، بل أنتج وحوشاً بشرية عاشقة للسلطة أحدثت دماراً لا يُحصى، مثل ستالين وهتلر وموسوليني.

قصة من الواقع المعاصر
في عدد أغسطس 2003، نشرت مجلة "ريدرز دايجست" قصة مؤلمة تُظهر كيف يمكن لهذا الفكر المدمر أن يؤثر على الشباب. القصة تحكي عن مراهقين، هما روبرت وزميله جيم، اللذان قتلا زوجين من الأساتذة المحبوبين في جامعة "دارتماوث".

كان الفتيان قد وضعا خططاً للهروب من مدينتهما الصغيرة والاستمتاع بحياة الجريمة. وكانت خطتهما الأولى أن يعثرا على هدف سهل ويسرقا أمواله ثم يقتلاه.

يقول كاتب المقال: «كان روبرت يقرأ لنيتشه وهو في المرحلة الثانوية. ولكن ما جذبه بشكل خاص هو عرض الفيلسوف الألماني لفكرة العدمية، وهي الفكرة التي تزعم موت الله وتنفي وجود قيم أخلاقية. وأخذ الصديقان يقلدان بعضهما البعض، وأصبحت لهما أفكار شاذة جداً. فقد أُعجبا بهتلر واعتبراه 'شديد الذكاء'.».

مهما حاولنا تبرير الأمور أو استخدام كلمات مهذبة لتخفيف الحقيقة، فإن الواقع يبقى واضحاً. الأفكار لها عواقب حقيقية، وفرشاة ألوان الإلحاد لا يمكنها إخفاء الشقوق والثقوب التي أحدثتها هذه الأفكار في جدار الحياة الإنسانية. إن أي محاولة لإخفاء الواقع المر تمثل أقصى درجات الكبت، وتعبر عن وهم لا يمكن الهروب منه إلى الأبد.

أدرك هذه الحقيقة الصحفي الإنجليزي الراحل مالكوم مجريدج، الذي عبّر عنها بقوله: «لو كان الله قد مات، فلا بد أن يأخذ مكانه آخر. وهذا الآخر سيكون إما جنون العظمة أو هوس العشق، الرغبة الجامحة في السلطة أو الرغبة الجامحة في اللذة، القبضة الحديدية أو الجنس، هتلر أو هيو هفنر».

فهتلر أطلق على العالم واحدة من أشرس حالات التلذذ بالكراهية والسادية، وأكثرها سفكاً للدماء. أما هيو هفنر، مؤسس مجلة "بلاي بوي"، فقد أهان كرامة المرأة إهانة صريحة، وأكد ضمنياً مبدأ المتعة الحسية باعتبارها الهدف الأعلى للحياة.

وأصدق من كل هذا قوله تعالى حكاية عن ملائكته الذين تساءلوا عند إخبارهم بخلق الإنسان: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾، وهذا ما تراه الملائكة في إنسان يتخلى عن عبادة الله.

تأثير نيتشه على طغاة القرن العشرين
من المعروف تأثر هؤلاء الطغاة بأفكار نيتشه وإلحاده. وقد أشار المؤرخ بول جونسون في كتابه "العصور الحديثة" إلى أن كلاً من هتلر وستالين وموسوليني - شياطين القرن العشرين الثلاثة - تأثروا جميعاً بتعاليم نيتشه.

كان لفلسفة نيتشه أعمق الأثر على هتلر، حتى أنها شكّلت الإطار المفاهيمي لهجومه العنيف للقضاء على الضعفاء والأقل مكانة في هذا العالم. وقد استطاع هتلر الترويج لهذه الأفكار باللعب على مشاعر الناس وأحكامهم المسبقة، ليؤسس بذلك لتفوق "الإنسان الأعلى" بدور مهيمن لا يفوقه شيء.

والدليل على عمق هذا التأثير أن هتلر قدّم نسخة من أعمال نيتشه إلى بينيتو موسوليني كهدية. فكم كان تأثير نيتشه كبيراً في لعبة الشطرنج الكبرى التي يمثل فيها الحكام الملوك، والبشر العاديون مجرد بيادق!

هذه هي الحقيقة المؤلمة لعالم أعلن موت الإله، عالم اكتشف أن الإنسان بلا إله ليس إنساناً أعلى، بل وحش أكثر دموية وقسوة من أي وحش في الطبيعة.


جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م