2024-04-15 447
الكتاب المقدس.. فضائح علمية وتبريرات باردة
من المعروف عند نقاد الكتاب المقدس أن الكتاب المقدس ليس فقط مجموعة من النصوص الدينية، بل هو أيضًا منتج لتفاعل ثقافي عميق ومعقد بين الشعوب المختلفة التي عاشت في الشرق الأوسط القديم، فلطالما تأثرت الكتابات المقدسة بالمعارف والتقاليد الثقافية المحيطة بها، وذلك يشمل حضارات السومريين، البابليين، الأكديين، المصريين، واليونانيين.
كتب كايل جرينوود: «نظراً إلى أن بني إسرائيل القدماء تنفسوا الجو
الثقافي نفسه لمن يحاذونهم جغرافياً، فلا عجب أن النظرة التوراتية
للكون تحمل كثيرًا من القواسم المشتركة مع النظرة الأوسع للعالم في
الشرق الأدنى» Scripture and Cosmology, p101-102.
ومن اللاهوتيين العرب، العراقي الأب سهيل قاشا، قال: «لقد أكتشف
دارسو ثقافات الشرق القديم منذ قرن ونيف أن الثقافات السومرية
والأكدية والآشورية والكلدية قد أسهمت إسهاماً هاماً في تكوين آداب
العهد القديم وتشكل بعض مفاهيمه ومقولاته وصياغة بعض تصوراته..
العهد القديم وريث فلسفة السلوك والتربية البابلية والآشورية»، حكمة
أحيقار وأثرها في الكتاب المقدس، ص67، 69.
ولا نرهقك بذكر كثير من الأمثلة، فيكفي مثلاً ما جاء بخصوص قطرات
الندى ـ المتكونة نتيجة تكثف بخار الماء عند ملامسة سطح بارد دون
الصفر المئوي ـ هي في الكتاب المقدس ماء نازل من السماء، بواسطة غيم
الندى، فالندى نوع مطر نازل من السماء! فقد ورد في سفر إشعياء،
18/4: «لأنه هكذا قال لي الرب: إني أهدأ وأنظر في مسكني كالحر
الصافي على البقل، كغيم الندى في حر الحصاد».، ويقول في سفر
الأمثال، 3/20: «بعلمه انشقت اللجج، وتقطر السحاب ندى»، والتثنية،
33/28: «فيسكن إسرائيل آمناً وحده. تكون عين يعقوب الى أرض حنطةٍ
وخمرٍ، وسماءه تقطر ندى»، وفي سفر العدد، 11/9: «ومتى نزل الندى على
المحلة ليلاً كان ينزل المن معه». فالندى ينزل كما ينزل المطر!
وعلة هذا القول العجيب معروفة! لأنها ببساطة ماكان شائعاً في ذاك
الزمان، فقد علق اللاهوتي الألماني كارل ناجلزباخ على نص اشعياء
المتقدم: «كان القدماء يعتقدون أن الندى أصله المطر. وهذا أمر يظهر
مثلاً في سفر أيوب 38/28، حيث عبارة قطرات طل». The Prophet Isaih,
11,219
بينما لاحظ عبارة القرآن عند ذكره الطل (الندى)، قال تعالى:
(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ
مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ
بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ
لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ)، البقرة: 265، فعبر بالإصابة لا بالنزول.
مثال آخر: ذكر في سفر أيوب 38/10 أن الإله وهو يخبر عن عظمته قال:
«ومن حجز البحر بمصاريع حين اندفق فخرج من الرحم. إذ جعلت السحاب
لباسه، والضباب قماطه، وجزمت عليه حدي، وأقمت له مغاليق ومصاريع».
فيخبر عن وضع الإله يهوه أقفالاً ومتاريس على البحر ليحبسه، وهو
اعتقاد قديم شائع كرره مؤلف سفر أيوب، فقد جاء في كتاب (تعليقات
لفهم أعمق للكتاب المقدس في سياقه التاريخي): «مغاليق ومصاريع
البحر: بعدما غلب مردوخ تيامات، خلق البحار، وجعل عليها حراساً
لكيلا تتجاوز المياه مكانها. تشير ملحمة أتراحسيس الأكدية الى لسان
قفل البحر الذي هو في حوزة الإله (إنكي). هناك نصوص أخرى تتحدث عن
أقفال البحر». The IVP Bible Background Commentary, p.509
وفي صورة أخرى تثبت تأثير الثقافات الشعبية على مؤلفي العهد القديم،
ما كتبه أصحاب نفس الكتاب المتقدم تحت عنوان (مخازن الثلج
والبَرَد): «اعتقد الإسرائيليون أن الثلوج والبَرَد، مثل المطر، تم
جمعها في المخازن لاستخدامها عند الضرورة». The IVP Bible
Background Commentary, p.510، وقد جاء هذا الفهم الساذج في سفر
أيوب 38/22 ـ 23: «أَدَخَلتَ الى خزائن الثلج، أم أبصرت مخازن
البَرَد، التي ابقيتها لوقت الضر، ليوم القتال والحرب»، فهي مخازن
أسلحة!!
بل نجد أن الكتاب المقدس يصر على جعل الغيوم أجساماً صُلبة يمكنها
الاحتفاظ بماء المطر مثل جلد القِربة، فقد جاء في سفر أيوب 26/8:
«يَصُرُّ المياه في سحبه فلا يتمزق الغيم تحتها». وقد جاء في شرحه:
«اعتبرت السحب هنا كالسقاء الذي يحمل في داخله الماء، وبصورة خارقة
(إعجازية) لم يتمزق. The IVP Bible Background Commentary, p.348
ويؤكد رئيس أساقفة القسطنطينية غريغوريوس النزينزي ـ أحد آباء
الكنيسة وقديسيها ـ هذا المعنى بقوله: «إعجاز ذلك أنه يضع شيئاً على
السحاب، ليثبته هناك بكلمته». Theological Orations, 28.28
بينما ينص القرآن على أن السحب تنزل الودق (المطر) مباشرة بعد
تحولها من حالتها الغازية الى السائلة، فيقول تعالى: (أَلَمْ تَرَ
أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ
يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ
وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ
فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ
يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ)، النور: 43.
فيقرر أنه تعالى يزجي (يدفع) السحاب، حتى يتراكم بعضه على بعض،
فتخرج منه حبات مطر صغيرة، وكذلك يُنزل حبات البَرَد (الحالوب) من
هذه السحب المتراكمة إذا صارت مثل الجبال، في إشارة الى أن هذه
السحب يمكن أن تمتدّ عموديّاً عِبر 15 أو 20 كيلومتراً، فتصل إلى
طَبقات من الجوّ باردةٍ جدّاً تنخفض فيها درجة الحرارة إلى 60 أو 70
درجة مئويّة تحت الصفر؛ وبذلك يتكوّن البَرَد (خيوط ثلجيّة) في
أَعالي تلك السُحب.
وفي مثال أخير على موافقة الكتاب المقدس لثقافة مؤلفيه في عصر
تدوينه ما جاء في مزمور 135/7: «المُصعِد السحاب من أقاصي الأرض.
الصانع بروقاً للمطر. المخرج الريح من خزائنه»، فيقرر أن مصدر السحب
من وراء هذا العالم، لا نتيجة تبخر المياه!! فقد جاء في كتاب Bible
Background Commentary, p.556: «السحاب من أقاصي الأرض: في التراث
السومري الذي عنوانه إنكي ونظام العالم، فتح إيشكور، إله الطقس،
أبواب السماء. هذه هي الطريقة التي فهم بها أهل بلاد ما بين النهرين
مصدر السحب. في كوسمولوجيا بلاد ما بين النهرين تشير عبارة (أقاصي
الأرض) الى الأفق، المكان الذي تقع فيه أبواب السماء. لأن الشمس
تُرى أنها تقع هناك وكأنها تعبر عبر بوابات السماء».
من هنا نتفهم موقف البابا يوحنا بولس الثاني، الذي برر هذه
المخالفات العلمية، بأن غرض الكتاب المقدس بيان سبب إنشاء هذا
الكون، وهو خدمة الإنسان ومجد الله، وليس الغرض بيان الحقائق
العلمية، لكن اضطر الكتاب المقدس لاستعمال بعض القضايا والمصطلحات
العلمية، ونص كلامه في رسالته الى الأكاديمية البابوية للعلوم، في 3
أكتوبر 1981: «أثار كل من علم نشأة الكون وعلم تطوره دائماً
اهتماماً كبيراً بين الشعوب والأديان، يحدثنا الكتاب المقدس نفسه عن
أصل الكون وتكوينه، لا من أجل تزويدنا بأطروحة علمية، ولكن من أجل
تقرير العلاقات الصحيحة للإنسان بالله والكون، وتود الأسفار المقدسة
ببساطة أن تعلن أن العالم قد خُلق من قبل الله.
ومن أجل تعليم هذه الحقيقة تعبر الأسفار المقدسة عن نظرتها بعبارات
الكوسمولوجيا المتداولة زمن حياة المؤلف. يرغب الكتاب المقدس أيضاً
أن يخبر الناس أن الكون لم يُخلق كمقر للآلهة، كما هو تعليم نظريات
نشأة الكون وتطوره الأخرى، وإنما تم إنشاؤه لخدمة الإنسان ومجد
الله. كل تعليم آخر عن أصل الكون وتشكيله هو غريب عن نوايا الكتاب
المقدس الذي لا يرغب في تعليم الناس كيف خلقت السماء، ولكن كيف يذهب
المرء الى السماء (الجنة)».
www.ewtn.com/library/papadoc/jp2cosm.Htm
وفي نظرك أخي القارئ هل ترى كلامه مقبولاً، فهل توقفت هذه الغاية ـ
على حسب زعمه ـ على ذكر نظريات خاطئة!! ألا يمكنه بيان ذلك مع ذكر
النظريات العلمية الدقيقة، كمات نجد ذلك في القرآن؟! ألا يؤكد ذلك
ما قاله الكاتب الفرنسي مورس بوكاي، عندما قال: «وهكذا يبدو إسهام
الإنسان في نص العهد القديم عظيماً، وإننا لنتحقق دونما عسر من نص
الى آخر، ومن ترجمة الى أخرى، ومع التصحيحات المستخلصة حتمياً، أن
النص الأصلي كان تحريفه ممكناً خلال أكثر من ألفي سنة». القرآن
والتوراة والإنجيل والعلم، ص21.
وهذا ما صرح به الفيلسوف واللاهوتي ويليام لين كريج ـ أشهر
المدافعين عن المسيحية في العالم اليوم ـ لما سُئل عن تناقضات
الأناجيل: «أنا لا أصر على عصمة الأسفار المقدسة من الخطأ»، New
York Times, 21-21-2018.
الشيخ مقداد الربيعي – باحث وأستاذ في الحوزة العلمية
الأكثر قراءة
26746
18754
14013
10848