24 جمادي الثاني 1446 هـ   26 كانون الأول 2024 مـ 6:19 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2024-12-06   150

ثبات القيم القرآنية وحركية التطبيق عبر الزمن

ثبات القيم القرآنية وحركية التطبيق عبر الزمن

الكاتب: معتصم السيد احمد

يشكل القرآن الكريم مصدراً متجدداً للهداية الإنسانية، يجمع بين ثبات القيم ومرونة التطبيق، مما يجعله صالحاً لكل زمان ومكان. مع ذلك، يثار أحياناً تساؤل حول كيفية بقاء القرآن متماشياً مع التحولات العلمية والثقافية التي يشهدها العالم، إذا كانت نصوصه ثابتة وقيمه لا تتغير. يطرح هذا التساؤل إشكالية فهم العلاقة بين الثابت والمتغير، حيث يبدو للبعض أن ثبات النصوص قد يتعارض مع متطلبات الزمن المتغير، بينما الحقيقة أن القرآن يقدم نموذجاً فريداً من التكامل بين الثبات والحركية، ما يسمح له بالاستمرار في أداء دوره كدستور للحياة الإنسانية.

حتى في الإطار التشريعي فإن قيم الأحكام وغاياتها تمثل الثابت الذي يحكم حركة المتغيرات، فقيم مثل العدل، الرحمة، الإحسان، والتوحيد، تمثل المحور الذي تدور حوله الأحكام، مما يجعلها صالحة للتطبيق في كل الأزمنة، فعندما يتحدث القرآن مثلاً عن القيم الأخلاقية في التجارة، مثل الأمانة والوفاء بالعقود، فهو لا يرتبط بنمط معين من الأنظمة الاقتصادية أو التجارية التي كانت سائدة في زمن نزول الوحي، بل يقدم مبادئ عامة قادرة على التأثير في أي نظام اقتصادي مهما اختلفت أشكاله عبر العصور، فيمكن لنا أن نتخيل اليوم كيف تُطبق هذه المبادئ في الأنظمة التجارية الحديثة مثل التجارة الإلكترونية أو البنوك الرقمية. في هذه الأنظمة، تكون الأمانة في التعاملات الإلكترونية مسألة حيوية، مثل ضمان حماية البيانات الشخصية للعملاء وعدم التلاعب بها، وهذا لا يختلف عن الأمانة في بيع وشراء السلع في الأسواق التقليدية. فالقرآن لم يُحدد نوع التجارة أو كيفية إتمام المعاملات، بل أرسى مبدأ الأمانة الذي يظل أساسياً في أي شكل من أشكال التجارة، مهما تطورت أدواتها أو تقنياتها.

نفس الشيء ينطبق على الوفاء بالعقود؛ ففي العصور القديمة، كان الوفاء بالعقود يعني الالتزام بالاتفاقات التي تُبرم شفاهياً أو كتابة بين الأفراد في سوق أو مجتمع معين، بينما في العصر الحديث قد تأخذ هذه العقود أشكالاً قانونية معقدة تشمل عقود الشركات، الاتفاقات الرقمية عبر الإنترنت، أو حتى العقود الذكية في تقنية (البلوك تشين)، وهي عبارة عن برامج أو نصوص برمجية تعمل على تنفيذ الشروط المتفق عليها بين الأطراف بشكل تلقائي عند تحقق شروط معينة، دون الحاجة إلى تدخل طرف ثالث أو وسطاء. وهي قاعدة بيانات موزعة وآمنة تقوم بتخزين السجلات بطريقة لا يمكن تعديلها أو حذفها بعد تسجيلها، ومع ذلك تبقى قيمة الوفاء بالعقود ثابتة، حتى وإن تغيرت الطرق والوسائل التي يتم بها إبرام هذه العقود.

هذه القدرة على التكيف مع الأنظمة الحديثة دون التنازل عن المبادئ الأخلاقية تجعل القرآن صالحاً للتطبيق في كل زمان ومكان، فهو يظل ثابتاً في جوهره ويشمل في إطار قيمه المبادئ التي تُعنى بالعدالة والأمانة وحقوق الإنسان بشكل عام. وبهذا الشكل، يُظهر القرآن قدرة غير محدودة على الاستجابة للتحديات التي تطرأ على المجتمع البشري، من دون أن يفقد ثباته أو تتأثر قيمه بتغير الزمان والمكان.

وعليه فإن ثبات القيم لا يعني الجمود، بل يشكل الأساس الذي يسمح بالحركة والتكيف مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية، والقرآن الكريم يقدم نموذجاً فريداً لحركية النصوص، حيث تسمح هذه الحركية باستيعاب التطورات المتلاحقة في حياة البشر. هذه الخاصية لا تعني تغيير النصوص أو تجاوزها، بل تعني قدرتها على استيعاب المتغيرات من خلال فهم القيم التي تشتمل عليها. فالأحكام الجزئية التي وردت في القرآن تأتي كمصاديق لتلك القيم الكلية، مما يتيح للعقل الإنساني الاجتهاد في تنزيلها على الواقع المتغير.

منهجية التعامل مع النصوص القرآنية

لفهم القرآن الكريم بعمق، من الضروري تبني منهجية تدبرية تعتمد على استنباط القيم والسنن التي يبثها النص. هذه القيم تشكل خارطة طريق لفهم كيفية تفاعل النصوص مع الواقع. يقول الله تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)، مشيراً إلى أن التدبر في النصوص يتطلب معرفة عميقة ودراية بالقيم التي ترشد إليها.

إحدى أبرز الآليات التي يمكن اعتمادها في هذا السياق هي البحث عن القيم المركزية وتحديد العلاقة بين النصوص الكلية والجزئية. هذه المنهجية تساعد على تحقيق التكامل بين ثبات النصوص القرآنية وحركية الواقع، مما يجعل النص القرآني مرجعاً قابلاً للتطبيق في كل زمان ومكان.

فمن أبرز التحديات التي تواجه فهم القرآن الكريم هي الوقوع في فخ التفسير التاريخي الجامد أو التفسير الآني المحدود. فالتفسير التاريخي ينظر إلى النصوص كمنتج مرتبط بظروف زمنية معينة، مما يؤدي إلى تجميدها في أطر ماضوية. في المقابل، التفسير الآني يحاول إخضاع النصوص لضرورات الحاضر، مما قد يؤدي إلى فقدانها لهويتها.

الحل الأمثل يكمن في منهج متوازن ينطلق من فهم القيم القرآنية كإطار ثابت، مع الانفتاح على المتغيرات الواقعية. هذا المنهج يجعل من النص القرآني موجهاً للواقع بدلاً من أن يكون تابعاً له، مما يضمن استمرارية الدين وقدرته على مواجهة التحديات المتجددة.

فالعلاقة بين الثابت والمتحول في القرآن ليست علاقة تقابلية، بل هي علاقة تكاملية تعزز من حيوية النص. الثابت يمثل القيم العليا التي لا تتغير، بينما المتحول يمثل التطبيقات العملية التي تتجدد مع الزمن. هذه العلاقة تتيح للإسلام الحفاظ على ثوابته مع القدرة على التكيف مع متغيرات الحياة، مما يجعله ديناً صالحاً لكل زمان ومكان. هذا يتطلب من المسلمين تجاوز القراءات الجزئية للنصوص، والتركيز على استنباط القيم والسنن التي تجعل النصوص قادرة على التفاعل مع متغيرات العصر.

من هذا المنطلق، فإن الخطاب الإسلامي يجب أن يتجدد باستمرار من خلال فهم عميق للنصوص القرآنية، مع مراعاة السياقات الثقافية والاجتماعية لكل عصر. هذه العملية تعزز من قدرة الإسلام على البقاء ديناً عالمياً يتفاعل مع كل التحولات، دون أن يفقد ثوابته أو مرجعيته.

وفي الختام يمكننا أن نقول إن ثبات القيم القرآنية وحركية تطبيقها يشكلان نموذجاً متكاملاً يجمع بين القدسية والمرونة، مما يجعل القرآن مصدراً دائماً للهداية الإنسانية. هذا التكامل يتيح للإسلام التفاعل مع كل تحولات العصر، من دون أن يفقد ارتباطه بالمبادئ الإلهية. ومن خلال منهجية التدبر في النصوص واستنباط القيم، يمكن للخطاب الإسلامي أن يبقى صالحاً لكل زمان ومكان، متجدداً ومتفاعلاً مع الحياة بكل أبعادها.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م