11 ذو القعدة 1446 هـ   9 أيار 2025 مـ 7:18 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-04-21   146

الإنسان بين الخطاب الإلهي ومفهوم الإنسانية الغربية


الشيخ معتصم السيد أحمد
حين يُستحضر الحديث عن "الإنسانية"، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو تلك القيم النبيلة التي تتمحور حول احترام الإنسان لكونه كائناً يمتلك وعياً، وعاطفة، وأخلاقاً. فهي تشير إلى كل ما يمنح الإنسان مقامه المتميز في الحياة: الكرامة، الرحمة، التعاطف، السعي نحو الخير، والانتصار للضعفاء. لكن ما إن نحاول أن نغوص قليلاً في الجذور الفلسفية لهذا المصطلح، حتى نكتشف أنه ليس بذلك الوضوح أو التوافق الذي يبدو عليه لأول وهلة، بل إن مفهوم "الإنسانية" نفسه قد مر بمراحل جدلية متباينة، وتعددت قراءاته بين تيارات فكرية ودينية مختلفة، وخصوصاً في السياق الغربي الحديث.

فالمصطلح الغربي "Humanity" لم يولد بريئاً من سياقاته التاريخية، بل كان وليد تجربة مريرة من القهر والاضطهاد، عاشها الإنسان الأوروبي تحت وطأة الكنيسة، التي تحولت في بعض العصور إلى سلطة كهنوتية قاسية، سلبت الإنسان حريته العقلية، وسجنت روحه خلف أسوار الطقوس والتفسيرات المتجمدة. لم يكن غريباً إذن أن ينبثق تيار فلسفي إنساني، يطالب بإعادة الاعتبار للإنسان في مقابل سلطة الكنيسة، ويركز على قيم الفرد، وحرية الإرادة، والاستقلال العقلي عن اللاهوت. لقد بدا ذلك وكأنه رد فعل على انحراف الدين عن مساره الروحي الأصيل، فبدأت الفلسفة الغربية تضع الإنسان – لا الله – في مركز الكون.

ومنذ ذلك الوقت، بدأ يُعاد تعريف الإنسان ضمن أطر دنيوية صرفة، فصارت إنسانيته تقاس بما يمتلكه من وعي عقلي، أو حس جمالي، أو قدرة على تحقيق ذاته. هذه المقاربات اختلفت بين مدارس فكرية عديدة، فمنها من رأى أن الإنسان كائن معرفي بالدرجة الأولى، ومنها من أعلت من شأنه الجمالي أو الأخلاقي، لكنها جميعاً كانت تدور في فلك واحد: نزع القداسة عن الإنسان بوصفه مخلوقاً متصلاً بخالقه، وتحويله إلى ذات مكتفية بذاتها، تستمد مشروعيتها من داخلها، لا من مصدر أعلى.

ولم تكن هذه الرؤية الإنسانية المحضة محض تنظير فلسفي بحت، بل رافقتها تحولات اجتماعية وسياسية عميقة، خصوصاً بعد عصر النهضة الأوروبية، حيث بدأ العقل يحتل موقعاً مركزياً في صياغة القيم والمعاني. صار العقل هو المرجع الأعلى، والإله الجديد، وتم تهميش الميتافيزيقا، أو حصرها في دائرة ما هو شخصي وباطني، لا يصلح لتوجيه الحياة العامة. ثم جاء العصر الحديث، بما فيه من ثورات صناعية وحروب عالمية وكوارث إنسانية، ليؤكد من جديد على الحاجة الماسة إلى منظومة أخلاقية تحترم الإنسان، لكن دون العودة إلى الدين كمصدر لهذه المنظومة، بل عبر تبني مبادئ مثل الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والليبرالية، والعلمانية، التي رُوّج لها بوصفها القيم الجديدة للعصر، وبدائل مفترضة عن القيم الدينية.

كل هذا يدعونا لإعادة التفكير في هذا المفهوم، لا من باب رفضه أو التوجس منه، بل من باب المراجعة العاقلة والهادئة، التي تبحث عن المشتركات، وتحدد مواضع الاختلاف. فهل ثمة تعارض جوهري بين ما تطرحه الفلسفات الإنسانية الحديثة وبين الرؤية الإسلامية للإنسان؟ أم أن هذا التعارض ناتج عن سوء فهم متبادل بين الطرفين؟

الحقيقة أن ما نراه من اشتباك ظاهري بين الإسلام والإنسانية ليس صراعاً بين جوهرين، بل هو خلاف في المنطلقات والتصورات. فحين تُفهم الإنسانية على أنها إعلاء لقيمة الإنسان، واحترام لكرامته، وضمان لحقوقه، فإن الإسلام ليس فقط لا يعارض هذا التوجه، بل يتبناه بعمق، وينطلق منه بوصفه أحد أسس العقيدة والتشريع. فالقرآن الكريم مليء بالآيات التي تؤكد على مركزية الإنسان في الكون، وتُعلي من شأن العقل، وتدعو إلى الرحمة والعدل والإحسان والتعاون.

لقد قدّم الإسلام تصوراً متكاملاً للإنسان، لا ينفي أبعاده الطبيعية، ولا يُقصي حاجاته المادية، بل يوازن بينها وبين أبعاده الروحية والعقلية، ويدعوه إلى التكامل لا التجزئة. وهذا ما يتضح جلياً في قوله تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً"، فالآية تؤكد أن التكريم الإلهي للإنسان هو أساس إنسانيته، وأن الكرامة ليست منحة بشرية، بل هي أصل وجودي ملازم لطبيعته.

في ضوء هذا، لا يرى الإسلام أي حرج في الحديث عن "الإنسانية"، ما دامت هذه الكلمة تعني إكرام الإنسان، وصيانة حقوقه، وتحقيق طموحاته في الحياة. بل هو يدعو إلى كل ذلك، لكنه يربط بين الإنسان وخالقه، ويجعل هذا الارتباط مصدراً للكرامة، لا قيداً عليها. فالقيم الأخلاقية ليست مجرد توافقات اجتماعية متغيرة، بل هي انعكاس لسنن إلهية ثابتة، تضمن للإنسان أن يبقى إنساناً حتى وهو يتطور ويتغير.

ولهذا فإن الإشكال لا يكمن في مصطلح الإنسانية ذاته، وإنما في الطريقة التي يُستخدم بها هذا المصطلح، وفي التصورات التي تُبنى عليه. فإذا تحوّلت الإنسانية إلى منظومة قيمية بديلة عن الدين، أو إلى مشروع يستبعد الله من المعادلة، فإنها تفقد معناها الحقيقي، لأنها تنفصل عن مصدر القيم الأسمى، وتتحول إلى مجرد خطاب برّاق قد يُستخدم لتبرير ما لا يُبرر من سلوكيات أو توجهات سياسية وثقافية.

والفرق بين الإسلام وبعض التيارات الإنسانية الحديثة، هو أن الإسلام ينظر إلى الإنسان ككائن مرتبط بالله، مكرم بخلقه، مسؤول عن أفعاله، بينما تنظر الثانية – في بعض صورها – إليه ككائن مكتفٍ بذاته، لا يحتاج إلى مرجعية غيبية. ومن هنا تنشأ المسافة بين المفهومين، لكن هذه المسافة ليست بالضرورة جداراً لا يمكن تجاوزه، بل يمكن النظر إليها بوصفها فرصة للحوار، والتكامل، والتصحيح المتبادل.

إن الإسلام يقدم نموذجاً فريداً للإنسانية، يجمع بين العقل والإيمان، بين الحرية والمسؤولية، بين الحقوق والواجبات، ويؤسس لعالم تتكامل فيه القيم الروحية مع القيم الاجتماعية، فلا يكون الإنسان فيه خصماً لله، ولا يكون الدين عدواً للإنسان، بل يكون الاثنان معاً في خدمة حياة أفضل، تحقق للإنسان كماله، وتمنحه ما يستحقه من احترام وكرامة.

في الختام، يمكن القول إن الحديث عن "الإنسانية" لا ينبغي أن يكون ساحة للصراع بين الدين والعقل، أو بين الإيمان والحرية، بل مجالاً للتلاقي بين الرؤى التي تسعى حقاً إلى بناء إنسانٍ كريم، واعٍ، حر، ومسؤول. والإنسان لا يكون كذلك إلا إذا ظل على صلة بمصدر وجوده، واستمد من هذه الصلة قِيَمه، ورؤيته، ومعناه.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م