11 ذو القعدة 1446 هـ   9 أيار 2025 مـ 5:48 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-04-26   105

هل التعصّب هو سرّ بقاء الدين؟


الشيخ معتصم السيد أحمد

يزعم بعض الملحدين بأن من أهم أسباب بقاء الأديان عبر العصور هو "التعصّب"، ويزعمون أنه لولا هذا التعصّب لربما اندثرت الأديان كما اندثرت الأساطير والخرافات القديمة. في هذا المقال، نحاول تفكيك هذه الرؤية من خلال التمييز بين المفاهيم، وتوضيح طبيعة التعصّب، ونسبة وجوده في التدين، ثم نقد المغالطة التي ينطوي عليها هذا الادعاء.

لفهم الادعاء القائل بأن التعصّب هو الذي حافظ على الأديان، لا بد أولاً من الوقوف عند مفهوم التعصّب ذاته. فغالباً ما يُحمَّل هذا المفهوم دلالة سلبية تلقائية، ويُفترض أن كل تعصّب هو بالضرورة انغلاق وجهل ورفض للحقيقة. غير أن تحليل دلالة المصطلح يكشف عن تعقيد أعمق في طبيعته، ولا يمكن إطلاق حكم سلبي عليه إلا بعد تحديد نوعه ومصدره ودوافعه.

فالكلمات التي يتداولها الناس يمكن تصنيفها إلى ثلاث فئات: الأولى، ألفاظ تدل على معانٍ حسنة بذاتها، كـ"العدل"، أو قبيحة بذاتها كـ"الظلم"، وهذه واضحة لا تحتمل التأويل. والثانية، ألفاظ قد تكون مقتضية للحسن أو القبح، ولكنها تدور مدار العنوان الطارئ عليها، مثل "الصدق" الذي يقتضي في الأصل الحسن دائماً، إلا أنه قد يتبدل حكمه إذا طرأ عليه عنوان يستوجب قبحه، كما لو أدى إلى هلاك إنسان بريء، فعندئذٍ لا يكون ممدوحاً. وكذلك "الكذب" فإنه يقتضي القبح دائماً، لكنه قد يكتسب حُسناً إذا اقترن بعنوان يجعله مطلوباً، كما لو أنقذ به نفساً بريئة من الهلاك. 
أما الفئة الثالثة، فهي الكلمات التي لا تحوي في ذاتها دلالة على الحسن أو القبح، ولا تقتضي ذلك في العادة، وإنما تدور مع الموضوع الذي تُسند إليه، ومن هذه الكلمات: "الضرب"، "الإمساك"، "الشدّة"، و"التعصّب"، فلا يمكننا أن نقول الضرب حسن أو قبيح إلا بعد أن نسأل عن دواعي هذا الضرب، فإن كان للتأديب أو القصاص مثلاً يكون حسناً، وإن كان للإيذاء فهو قبيح، وكذلك الحال في التعصّب، فإن كان تعصباً للحق فهو محمود، وإن كان للباطل فهو مذموم. 

التعصّب كصفة هو حالة نفسية وسلوكية تنشأ من الإصرار على فكرة أو موقف، وقد يكون هذا الإصرار قائماً على معرفة وبصيرة، وقد يكون قائماً على جهل وغريزة وعاطفة. فالمتعصّب للحق عن إدراك ويقين ليس كمن يتعصّب للباطل عن هوى أو خوف أو تورّط عائلي أو مجتمعي. وكلما ازداد الإنسان يقيناً بالحقيقة، ازداد تمسكاً بها، فكيف يمكن أن يُعد هذا تعصّباً مذموماً؟ إن الثبات على الحق لا ينبغي أن يُرادف عمى البصيرة، بل هو دليل سلامتها.

من هنا، لا يمكن أخذ مصطلح "التعصّب" باعتباره مطلقاً سلبيّاً، دون النظر إلى ما يُتعصّب له، ومن أين جاء هذا التمسّك، وهل هو وليد قناعة عقلية أم اندفاع عاطفي؟ ولذلك فإن كثيراً من الديانات، وعلى رأسها الإسلام، لا تقرّ التعصّب القائم على العاطفة أو الهوى، بل تدعو إلى المراجعة، والتدبر، والإنصاف حتى في أحلك المواقف.

لقد عمل الإسلام منذ بداياته على تربية الفرد المؤمن على أن يكون محكوماً بالحق لا بالهوى، ومُلزَماً بالعدل لا بالغريزة. بل إن القرآن جعل معيار الإنصاف عابراً للمصالح الشخصية والعائلية، وأمر بالتزام العدل حتى لو كان ذلك على حساب النفس أو الأقربين، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)، ثم شدّد الأمر في مواجهة الأعداء أيضاً: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا). فهل يُمكن اتهام دين يُربّي أتباعه على هذا المستوى من الإنصاف بأنه يقوم على التعصّب الأعمى؟

من جهة أخرى، لم يترك الإسلام مسألة الالتزام بالحق مجالاً للاجتهاد الشخصي أو الخضوع للأهواء والمصالح المتقلبة، بل جعله واجباً دينياً وأخلاقياً على كل مؤمن، لما في التفريط فيه من تهديد لهويته الدينية وانحراف عن الصراط المستقيم. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله: ﴿فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾، فالثبات على الحق لا يُعدّ نوعاً من التعنّت أو الانغلاق، بل هو ثمرة وعي وبصيرة، نابعة من إدراكٍ راسخ بأن ما خالف الحق فهو باطل، وما خرج عن العدل فهو ظلم. 

وبالتالي، فإن المؤمن الحقيقي لا يتمسّك بدينه من باب التقليد أو الوراثة أو الانغلاق، بل لأن ما يؤمن به قد توصّل إليه عبر الدليل، وارتكز على قناعة عميقة لا تتزعزع. وهذا ما أكّده القرآن بقوله: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ).

أما الادعاء بأن الدين استمر بفضل التعصّب، فهو يقوم على مغالطة مزدوجة: أولاً في تفسير التعصّب تفسيراً سلبياً مطلقاً، وثانياً في تجاهل العوامل الأخرى الحقيقية التي جعلت الدين يستمر، وعلى رأسها العقلانية التي يحتويها، والمعنوية التي يلبيها، والموقع الجوهري الذي يشغله في تركيبة الإنسان الروحية والأخلاقية. لو كان الدين يعتمد فقط على التعصّب، لكان زائلاً بزوال ظرف التعصّب، كما زالت كثير من التيارات الفكرية والشعارات السياسية التي اعتمدت على شعارات عاطفية أو مصالح وقتية.

فالدين الذي يقوم على الحق ويؤسس لمنظومة معرفية وأخلاقية كاملة، لا يمكن أن يُختزل في نزعة تعصّبية، بل هو مشروع حياة متكامل، يستند إلى العدل، ويدعو إلى الرحمة، ويحاور العقل، ويهذب النفس، ويطلب من الإنسان أن يسمو فوق الهوى. هذا الدين لا يُختزل في سلوكيات أفراده، ولا يُدان بسبب تصرّف بعض الجهلة به، كما لا يُفسَّر بقاؤه عبر العصور بأنه نتيجة حالة نفسية جماعية من التعصّب.

وهكذا، فإن الخلاصة التي ينبغي التنبّه لها هي أن وصف التدين بالتعصّب فيه قدر كبير من التبسيط المخلّ، بل إن هذا الاتهام ذاته يكشف عن تعصّب مضاد، غير مستند إلى فهم موضوعي أو مقاربة علمية. وإذا كان بعض الناس يعتنق الدين دون وعي، فإن آخرين كثيرين يصلون إلى الإيمان بعد بحث طويل وتفكّر دقيق، ويظلون متمسكين به لأنهم أدركوا عمقه واتساقه مع فطرة الإنسان واحتياجاته المعنوية، لا لأنه فُرض عليهم من الخارج.

إن الثبات على الدين ليس دليل انغلاق، وإنما في كثير من الأحيان، هو نتيجة وعي وبصيرة وتجربة شخصية تُثبت للإنسان أن الدين ليس خياراً ترفيهياً، بل ضرورة وجودية لا يُستغنى عنها، ومن هنا فإن البقاء على الدين لا يعود إلى التعصّب وإنما إلى الحقيقة التي يحملها والروح التي يخاطبها.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م