
2019-03-25 1012

الحريري ومقاماته.. ذروة في الادب العربي
يقول المستشرق الألماني بروكلمان في
كتابه (تاريخ الادب العربي): ظلّ العرب يرون في مقامات الحريري
وقصائد المتنبي أكمل تعبير عن روحهم حتى مطلع العصر
الحديث.
وعلى الرغم من أن بروكلمان قد سجّل في هذه الكلمات حقيقة تاريخية لمقامات الحريري في تناول الموضوعات التي تعبّر عن واقع الحياة وارتباطها بقضايا مهمة في تاريخ العرب، إلاّ أن ظاهرة اتفاق الآراء في عمليتي القبول والرفض تبرز بشكل واضح في كثير من الأغراض التي عالجتها هذه المقامات والأساليب التي اتبعها الحريري في إنشائها.
ولا يسعنا هنا عرض جميع الآراء إلاّ أننا نستطيع القول إن أغلب هذه الآراء أفرزتها الشحنات التي استندت على العاطفة أكثر من العقل في كلتا العمليتين غير إننا نحمل الموقف على مرتكز التأمل والفكر.
فالقارئ أصبح يهتم بالشكل الأدبي أكثر من اعتنائه بالموضوع، بل إنه يكاد ينفر من الطابع القديم الذي دوّن من خلاله الشعراء والكتاب أفكارهم وآراءهم على الرغم من أن المتاحف العالمية تفخر بامتلاك بعض لوحات الفنانين الذين عاشوا قبل عدة قرون وكذلك تفخر الجامعات العالمية بأن تضم مكتباتها مخطوطات قديمة تتحدث عن أمة غير أمتهم وبلغة غير لغتهم.
ولسنا نريد هنا أن نؤرخ أسلوباً أدبياً لحقبة معينة بقدر ايضاح أن هذه الحقبة وربما تكون الهامة جداً بالنسبة إلى تاريخنا الأدبي لم تأخذ مداها الكامل من الدراسة الأدبية.
وإذا كانت روح العصر في التغيير والتجديد تأخذ طريقها إلى الساحة النقدية فإن مما لا مجال للشك فيه أن كل فن لا ينبت فجأة دون مؤثرات أو جذور ومقدمات، وهذا ما تلاشى عن أذهان الكثير وغاب عنهم أن الأدب الحديث يحمل سمات وآثار كثيرة تشبه إلى حد بعيد الآثار السابقة.
ولنرجع إلى مقامات الحريري التي تعد ثروة كبيرة من المفردات لا تغني عنها المعاجم الكبيرة، فرغم أن الحريري لم يكن الرائد في هذا المجال فقد سبقه إلى هذا الابتكار بديع الزمان الهمداني الذي يعد مؤسس هذا الفن إلا أن الحريري بلغ بهذا الفن ذروته من حيث الاحاطة والسعة حتى عدت مقاماته في صدارة الأدب العربي.
في البصرة وفي عام 446هـ / 1054م ولد أبو محمد القاسم بن علي بن عثمان الحريري البصري وقد اكتسب لقبه ـ الحريري - من صناعة الحرير التي عرفت بها أُسرته وكانت تسكن في قرية صغيرة تسمى (المشان) ثم سكن الحريري حياً من أحياء البصرة يُعرف بمحلة بني حرام المنسوب إلى قبيلة بني حرام.
ونبغ الحريري منذ صغره بالأدب وتتلمذ على يد أبي القاسم الفضل بن محمد البصري وغيره من أعلام اللغة والأدب حتى برع في اللغة وعُدّ من كبار لغوييّ عصره وألف في هذا المجال كتاب: (درة الغوّاص في أوهام الخواص) وكتاب (ملحة الإعراب) وهو عبارة عن منظومة في النحو وكتاب (شرح الملحة).
كما كتب أيضاً العديد من الرسائل التي جمعت في كتاب إلى جانب ديوان شعره الضخم ومقاماته الخمسين التي عرف بها أكثر من غيرها من الفنون الأدبية.
في منتصف القرن الرابع تداولت الألسن كلمة المقامة وتناقلتها الأفواه على أنها فن نثري بديع، وقد ذهب البعض إلى أن الفضل في تأسيس هذا الفن إنما يعود لابن دريد لا لبديع الزمان الهمداني كما هو مشهور، ولكن لم يثبت صحة هذا القول إذ أنه يتنافى وواقع الحال فلم يعرف الأدب العربي مقامات لابن دريد، وعرف إن أول مقامات وصلت إلينا وعرفناها باسم بديع الزمان الهمداني.
والمقامات عبارة عن قصص قصيرة وحوادث ومغامرات لا اتصال بين مقامة ومقامة، وأبطالها هم شخصيات من واقع الحياة وأحيانا يلجأ الكاتب إلى الخيال لخلق مواقف فنتازية يربطها بالواقع لإثارة قضايا اجتماعية وسياسية، أما كاتب المقامة فهو على صلة وثيقة بالبطل يراقبه عن كثب ويروي مغامراته رواية شاهد عيان، ولعل أول ما يلفت النظر في المقامات سجعها وأسلوبها الأدبي البديع، على أن سجعها ليس من النوع الأجوف الممل الذي يسخّر المعنى فيه من أجل اللفظ المسجع.
ويكاد يشعر المرء وهو يقرأ مقامات الحريري أو الهمداني أن الفاظها المسجعة وغير المسجعة أحياناً هي أفضل ما يمكن استعماله للتعبير عن المعنى المقصود، هذا إضافة إلى المزايا الإنشائية والمحسنات البديعية التي تجد وفرة كبيرة منها في المقامات، وأكثر ما يسترعي الانتباه في المقامات هو ما تحفل به من حوار وسرد وغير ذلك من بوادر الكتابة القصصية الدرامية، وكل هذه المزايا تنطبق تماماً على مقامات الحريري بقدر ما تصدق على مقامات الهمذاني التي سبقتها بنحو مئة عام، غير أن الحريري جعل من فن المقامات صناعة منمقة. يقول ياقوت الحموي في (معجم الأدباء): لقد وافق كتاب المقامات ـ الحريري - من السعد ما لم يكن من الكدية وكان الحريري من أعيان دهره وفريد عصره وممن لحق طبقة الأوائل عبر عليهم في الفضائل.
ونظرة واحدة إلى إحدى مقاماته تعطي للقارئ صورة واضحة عن مدى الاحاطة التي أحاطها الحريري بمقاماته من حيث الفنون الكتابية والألوان البديعية سواء من حيث النثر أو الشعر أو المعاني أو النظرة إلى الحياة، يقول في مقامته (القبور) وهي المقامة الحادية عشرة: "حدّث الحارث بن هشام قال: آنست من قبلي القساوة، حين حللت ساوة، فأخذت بالخبر المأثور في مداراتها بزيارة القبور، فلما صرت إلى محلة الأموات وكفات الرفات، رأيت جمعاً على قبر يحفر ومجنوز يقبر، فانحزت إليهم متفكّراً في المآل متذكراً من درج من الآل فلما ألحدوا الميت وفات، فوليت أشرف شيخ من رباوة متخصراً بهراوة، وقد لفع وجهه بردائه ونكر شخصه لدهائه، فقال: لمثل هذا فليعمل العاملون، فاذكروا أيها الغافلون، وشمروا أيها المقصرون، واحسنوا النظر أيها المتبصرون، مالكم لا يحزنكم دفن الأتراب، ولا يهولكم هيل التراب، ولا تعبؤون بنوازل الأحداث، ولا تستعدون لنزول الأجداث، ولا تستعبرون لعين تدمع، ولا تعتبرون بنعي يسمع، ولا ترتاعون لألف يفقد... الخ".
ولا شك أن القارئ يتحسس المزايا الفنية في هذه المقامة وخاصة إذا كان تحسسه وفق المفهوم التاريخي في تقدير الأحكام والأخذ بالاعتبار الإطار الزمني للمقامة.
وتجيء المقامات الأخرى كلها على هذا المنوال والنسيج في رسم الأحداث والاستمرار في نفس الزخم والخيال الخلاق والبديع الجميل، ولعل أكثر ما يستشفه القارئ من هذا الجو هو الاسترسال في الجمل المرتبطة فلا تكاد جملة تنفصل عن الأخرى أو صورة عن أختها في التداخل في الموضوع.
وقد طعّم الحريري فضلاً عن هذا البديع مقاماته بالشعر على لسان أبطال مقاماته وهو من شعر الحريري كما لا يخفى، يقول على لسان الشيخ في المقامة الآنفة الذكر ـ القبور ـ :
أيا من يدّعي الفهمْ إلى كمْ يا أخا الوهمْ
تعبي الذنب والذمّ وتخطي الخطأ الجمّ
أما بان لك العيبْ أما أنذرك الشّيــــبْ
وما في نصحه ريْبْ ولا سمعك قـد صمّ
أمَا نادَى بكَ الموتْ أما أسمعك الصوتْ
أما تخشى من الفـوتْ فتحتاط وتهتــــــــمْ
وخلاصة القول إن مقامات الحريري تعد ثروة كبيرة لا تجد ما يضاهيها في فنها وهي تستحق الدراسات المكثفة وتستحق أيضاً تداولها في المناهج الدراسية.
محمد طاهر الصفار
وعلى الرغم من أن بروكلمان قد سجّل في هذه الكلمات حقيقة تاريخية لمقامات الحريري في تناول الموضوعات التي تعبّر عن واقع الحياة وارتباطها بقضايا مهمة في تاريخ العرب، إلاّ أن ظاهرة اتفاق الآراء في عمليتي القبول والرفض تبرز بشكل واضح في كثير من الأغراض التي عالجتها هذه المقامات والأساليب التي اتبعها الحريري في إنشائها.
ولا يسعنا هنا عرض جميع الآراء إلاّ أننا نستطيع القول إن أغلب هذه الآراء أفرزتها الشحنات التي استندت على العاطفة أكثر من العقل في كلتا العمليتين غير إننا نحمل الموقف على مرتكز التأمل والفكر.
فالقارئ أصبح يهتم بالشكل الأدبي أكثر من اعتنائه بالموضوع، بل إنه يكاد ينفر من الطابع القديم الذي دوّن من خلاله الشعراء والكتاب أفكارهم وآراءهم على الرغم من أن المتاحف العالمية تفخر بامتلاك بعض لوحات الفنانين الذين عاشوا قبل عدة قرون وكذلك تفخر الجامعات العالمية بأن تضم مكتباتها مخطوطات قديمة تتحدث عن أمة غير أمتهم وبلغة غير لغتهم.
ولسنا نريد هنا أن نؤرخ أسلوباً أدبياً لحقبة معينة بقدر ايضاح أن هذه الحقبة وربما تكون الهامة جداً بالنسبة إلى تاريخنا الأدبي لم تأخذ مداها الكامل من الدراسة الأدبية.
وإذا كانت روح العصر في التغيير والتجديد تأخذ طريقها إلى الساحة النقدية فإن مما لا مجال للشك فيه أن كل فن لا ينبت فجأة دون مؤثرات أو جذور ومقدمات، وهذا ما تلاشى عن أذهان الكثير وغاب عنهم أن الأدب الحديث يحمل سمات وآثار كثيرة تشبه إلى حد بعيد الآثار السابقة.
ولنرجع إلى مقامات الحريري التي تعد ثروة كبيرة من المفردات لا تغني عنها المعاجم الكبيرة، فرغم أن الحريري لم يكن الرائد في هذا المجال فقد سبقه إلى هذا الابتكار بديع الزمان الهمداني الذي يعد مؤسس هذا الفن إلا أن الحريري بلغ بهذا الفن ذروته من حيث الاحاطة والسعة حتى عدت مقاماته في صدارة الأدب العربي.
في البصرة وفي عام 446هـ / 1054م ولد أبو محمد القاسم بن علي بن عثمان الحريري البصري وقد اكتسب لقبه ـ الحريري - من صناعة الحرير التي عرفت بها أُسرته وكانت تسكن في قرية صغيرة تسمى (المشان) ثم سكن الحريري حياً من أحياء البصرة يُعرف بمحلة بني حرام المنسوب إلى قبيلة بني حرام.
ونبغ الحريري منذ صغره بالأدب وتتلمذ على يد أبي القاسم الفضل بن محمد البصري وغيره من أعلام اللغة والأدب حتى برع في اللغة وعُدّ من كبار لغوييّ عصره وألف في هذا المجال كتاب: (درة الغوّاص في أوهام الخواص) وكتاب (ملحة الإعراب) وهو عبارة عن منظومة في النحو وكتاب (شرح الملحة).
كما كتب أيضاً العديد من الرسائل التي جمعت في كتاب إلى جانب ديوان شعره الضخم ومقاماته الخمسين التي عرف بها أكثر من غيرها من الفنون الأدبية.
في منتصف القرن الرابع تداولت الألسن كلمة المقامة وتناقلتها الأفواه على أنها فن نثري بديع، وقد ذهب البعض إلى أن الفضل في تأسيس هذا الفن إنما يعود لابن دريد لا لبديع الزمان الهمداني كما هو مشهور، ولكن لم يثبت صحة هذا القول إذ أنه يتنافى وواقع الحال فلم يعرف الأدب العربي مقامات لابن دريد، وعرف إن أول مقامات وصلت إلينا وعرفناها باسم بديع الزمان الهمداني.
والمقامات عبارة عن قصص قصيرة وحوادث ومغامرات لا اتصال بين مقامة ومقامة، وأبطالها هم شخصيات من واقع الحياة وأحيانا يلجأ الكاتب إلى الخيال لخلق مواقف فنتازية يربطها بالواقع لإثارة قضايا اجتماعية وسياسية، أما كاتب المقامة فهو على صلة وثيقة بالبطل يراقبه عن كثب ويروي مغامراته رواية شاهد عيان، ولعل أول ما يلفت النظر في المقامات سجعها وأسلوبها الأدبي البديع، على أن سجعها ليس من النوع الأجوف الممل الذي يسخّر المعنى فيه من أجل اللفظ المسجع.
ويكاد يشعر المرء وهو يقرأ مقامات الحريري أو الهمداني أن الفاظها المسجعة وغير المسجعة أحياناً هي أفضل ما يمكن استعماله للتعبير عن المعنى المقصود، هذا إضافة إلى المزايا الإنشائية والمحسنات البديعية التي تجد وفرة كبيرة منها في المقامات، وأكثر ما يسترعي الانتباه في المقامات هو ما تحفل به من حوار وسرد وغير ذلك من بوادر الكتابة القصصية الدرامية، وكل هذه المزايا تنطبق تماماً على مقامات الحريري بقدر ما تصدق على مقامات الهمذاني التي سبقتها بنحو مئة عام، غير أن الحريري جعل من فن المقامات صناعة منمقة. يقول ياقوت الحموي في (معجم الأدباء): لقد وافق كتاب المقامات ـ الحريري - من السعد ما لم يكن من الكدية وكان الحريري من أعيان دهره وفريد عصره وممن لحق طبقة الأوائل عبر عليهم في الفضائل.
ونظرة واحدة إلى إحدى مقاماته تعطي للقارئ صورة واضحة عن مدى الاحاطة التي أحاطها الحريري بمقاماته من حيث الفنون الكتابية والألوان البديعية سواء من حيث النثر أو الشعر أو المعاني أو النظرة إلى الحياة، يقول في مقامته (القبور) وهي المقامة الحادية عشرة: "حدّث الحارث بن هشام قال: آنست من قبلي القساوة، حين حللت ساوة، فأخذت بالخبر المأثور في مداراتها بزيارة القبور، فلما صرت إلى محلة الأموات وكفات الرفات، رأيت جمعاً على قبر يحفر ومجنوز يقبر، فانحزت إليهم متفكّراً في المآل متذكراً من درج من الآل فلما ألحدوا الميت وفات، فوليت أشرف شيخ من رباوة متخصراً بهراوة، وقد لفع وجهه بردائه ونكر شخصه لدهائه، فقال: لمثل هذا فليعمل العاملون، فاذكروا أيها الغافلون، وشمروا أيها المقصرون، واحسنوا النظر أيها المتبصرون، مالكم لا يحزنكم دفن الأتراب، ولا يهولكم هيل التراب، ولا تعبؤون بنوازل الأحداث، ولا تستعدون لنزول الأجداث، ولا تستعبرون لعين تدمع، ولا تعتبرون بنعي يسمع، ولا ترتاعون لألف يفقد... الخ".
ولا شك أن القارئ يتحسس المزايا الفنية في هذه المقامة وخاصة إذا كان تحسسه وفق المفهوم التاريخي في تقدير الأحكام والأخذ بالاعتبار الإطار الزمني للمقامة.
وتجيء المقامات الأخرى كلها على هذا المنوال والنسيج في رسم الأحداث والاستمرار في نفس الزخم والخيال الخلاق والبديع الجميل، ولعل أكثر ما يستشفه القارئ من هذا الجو هو الاسترسال في الجمل المرتبطة فلا تكاد جملة تنفصل عن الأخرى أو صورة عن أختها في التداخل في الموضوع.
وقد طعّم الحريري فضلاً عن هذا البديع مقاماته بالشعر على لسان أبطال مقاماته وهو من شعر الحريري كما لا يخفى، يقول على لسان الشيخ في المقامة الآنفة الذكر ـ القبور ـ :
أيا من يدّعي الفهمْ إلى كمْ يا أخا الوهمْ
تعبي الذنب والذمّ وتخطي الخطأ الجمّ
أما بان لك العيبْ أما أنذرك الشّيــــبْ
وما في نصحه ريْبْ ولا سمعك قـد صمّ
أمَا نادَى بكَ الموتْ أما أسمعك الصوتْ
أما تخشى من الفـوتْ فتحتاط وتهتــــــــمْ
وخلاصة القول إن مقامات الحريري تعد ثروة كبيرة لا تجد ما يضاهيها في فنها وهي تستحق الدراسات المكثفة وتستحق أيضاً تداولها في المناهج الدراسية.
محمد طاهر الصفار
الأكثر قراءة
31569
19248
14728
11418