25 جمادي الثاني 1446 هـ   27 كانون الأول 2024 مـ 5:49 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2022-04-26   635

حقوق الإنسان بين التشريعات الإلهية والتقنينات البشرية

يتفق الجميع على إن مصدر حقوق الإنسان ومنبعها هو الشرعة الإلهية، من خلال منظومة الدين ـ الدين السماوي ـ وهي بذلك لم تكن من نتاج الإنسان نفسه، وإلا لمالت الكفة صوب البعض دون الآخر، لقصور في تصور هذا الإنسان وقلة إدراك منه، وسوء تقدير، فضلا عن محدوديته في تصور نظرية الحق، ولوازمها. 
وما التبجح بالتقنينات العصرية لهذه الحقوق، إلا أصداء مضخمة ومبالغ فيها، بغية تأسيس أنظمة اجتماعية وربما سياسية جديدة، خصوصا وأنها ولدت ـ ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ـ عقب كوارث كبرى حلت بالإنسان وحقوقه، ومنها بطيعة الحال الحرب العالمية الثانية، ما يجعل نسبة هذه التشريعات للإنسان محل نظر، خصوصا وإن كل ظلامة يمر بها الإنسان، إنما مصدرها إنسان أخر.
والاعتراف بكون مبدأ حقوق الإنسان مبدئا دينيا، ليس من نتاجات كتّاب التأريخ، ولا من تكهنات العاملين بالمجال السياسي، فبمجرد مراجعة أولية لأي تشريع سماوي، سواء ما كان منه في الكتب السماوية الثلاثة ـ التوراة والإنجيل والقرآن الكريم ـ أو ما قاله الأنبياء ومن بعدهم اوصياءهم، يستشف القارئ والمطلع جزئيات هذه الحقوق، ولو لم تكن مبوبة بالشكل العصري كما هو شأن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ولا مبندة ببنود كتلك التي تكتبها المنظمات الحقوقية، ليس لقلة أهميتها كما يظن البعض، إنما لأهميتها القصوى التي تطلبت نشرها في أكثر من محل، بل وأبعد من ذلك، يمكننا القول بأن جميع مضامين الأديان السماوية لا تتعدى حسن التعامل مع الأخر ـ كحق ـ لأن "الدين المعاملة"، بل ولا تتعدى معرفة الخالق وحقوقه على الإنسان بما يخص منح الأخر حقه، فضلا عن التعرف على حقوقه جل شأنه المترتبة على الإنسان، وإن كان هو في غنى عما بيد خلقه، إلا أن أهميتها متأتية من كونها تحافظ وتنظم حقوق الخلق ـ وسيدهم الإنسان ـ وتحميها.
بل ويمكنن الركون الى حقيقة تاريخية، مفادها إن غياب حقوق الإنسان، وتحول الحياة الى معترك شبيه بالغابة، إنما حصل لحظة إن أبتعد الإنسان عن جادة الله وشرعته، واستن لنفسه سنن أقل ما يقال عنها بأنها قاصرة ومقصرة، خصوصا بعد وضع الإنسان لمجموعته البشرية تشريعات وتقنينات نسفت السماوية منها، واعتمدت على رجال أو هيئات يعتقد بأنهم "حكماء"!، فراحت تشرعن الممنوع وتسمح بما لا ينسجم مع الفطرة السليمة، فبين من يسمح باللواط والزنا، ولا يقبل بالقصاص، ويبرر الانحلال ويسوغ الرذيلة ويشرعن الإخلال بالأمن المجتمعي، ظنا منهم بأن القصاص فيها "قيود" و"حدود" ظالمة، تستوجب إعادة النظر، وهو ما ولّد مجتمعات، أقل ما يقال عنها بأنها تحتكم لشريعة الغاب، وليس ببعيد عنا ما يحدث في مشارق الأرض ومغاربها من جهة القتل الطائفي والتعامل العنصري والتغيرات المجتمعية التي لا تنسجم مع الفطرة السليمة، فضلا عن التحلل الأخلاقي وما نتج عنه من كوارث صحية ومادية وبيئية يحتاج الكوكب لمئات السنين كي يتعافى منها. 
وبمراجعة سريعة للنظم والقوانين الوضعية، نجد إن الإنسان بالغ في البحث عن بدائل عقابية لمبدأ القصاص مثلا، فبين من يعتمد مبدأ العفو، وبين من يستبدل القصاص بعقوبات تخفيفية، وصل "المشرعون" الى حقيقة مؤلمة قوامها الردع يكون بالمثل، بعد أن زادت المشاكل وغابت وسائل الردع الحقيقية، بل وميع ما اقترحوه وصار المجتمع البشري أقرب للحيواني منه، حيث القوي يأكل الضعيف، والكبير يظلم الصغير، فتعالت الصوات المطالبة بإعادة النظر في التشريعات "الرحيمة" ومنها مثلا المطالبة بإعادة حكم الإعدام على القتلة، بعدما ألُغي في بعض الدول، وصار ميثاقا دوليا، وذلك بعد أو وجدوا إن القاتل يُسجن ليخرج ويعاود عملية القتل، والسارق، يقضي حكمه المخفف ليخرج وهو أكثر تفننا في السرقة، والزاني يحبس إم لم نقل يغض الطرف عنه، فصارت الجريمة فعل طبيعي لا يستوجب الغرابة، فأكتشف هؤلاء المشعين بأن القصور في وسائل العقاب، وقلة مستوى ردعها، هو السبب في إشاعة الجريمة وتكرارها من ذات الفرد، بل وجدوا إن هذه السجون هي الأخرى باتت مكانا يُصنع فيه المجرم بشكل احترافي، حتى تحولت حالة الجريمة الى تيار قوي وغالب لا يمكن مجابهته، حتى صار ما كانوا ينادون به من "حقوق الإنسان" مختصا بالظلمة والقتلة، دون الأبرياء من الناس، وصارت هذه الحقوق مجرد شعار فارغ ومفروغ المحتوى، كنتيجة طبيعية لإقحامهم قوانينهم الوضعية في محل السماوية، وهو مجال يفوق تصورهم، ولم تدركه عقول مشرعيهم، في وقت كان يحتاج المشرع لمثل هذه القوانين متابعة واستقراء تأريخي من جهة واستشراف مستقبلي من جهة ثانية، فضلا عن الإلمام بجزئيات وكليات، ما زالت معارف الإنسان العصري قاصرة عنها فضلا عن حاجته للمعرفة المعمقة بالنفس البشرية ونزعاتها وخفاياها وما يمكن ان يحفزها أو يردعها، على سبيل القطع لا الظن، وإلا صارت الظلامات أكثر بداعي الحكم الظني، وهو ما لا يكون فيما لو كانت التشريعات من علام الغيوب، الخالق المبدع، الجبار المنتقم، الرحمن الرحيم.
كما إن منح هؤلاء المشرعين لهذه الحقوق، هو الأخر تجني على الأجيال القادمة ـ بل والسابقة ـ إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الحركة السريعة للمجتمعات البشرية وطبائعها، والمتغيرات التي تطرأ عليها بين الحين والأخر، وهو ما يجعل منها حقوق قابلة للتغيير، بل وللتبديل، في وقت تكون فيه ـ حقوق الإنسان ـ حقوقا أصيلة غير مكتسبة، فطرية، موهوبة من الواهب الكريم، كونها متسقة مع الحياة السليمة لمن منحت له (الإنسان)، وبخلافها تصير حياته صعبة وموجعة، وهو ما لا يرتضيه الله سبحانه وتعالى.
ومن جهة أخرى، فإن هذه الحقوق، إنما هي هبة سماوية، من لدن خبير عليم، وليس لأحد ـ أو جماعة ـ حق تقييدها او حبسها ـ كلا أو بعضا، وليس غير التشريع السماوي قيدا لبعضها، ولحكمة قد لا تدركها العقول، ما يجعل القيود السماوية هي الأخرى مُنحا ربانيا، وليس بطراً أو قيدا دونما سبب، خصوصا وإن أهم أسباب هذه القيود هو الحد من تزاحم المصالح ومنع التعدي والإساءة والتعسف باستخدام هذا الحق أو ذاك، خصوصا وأن جميع هذه الموارد واردة بحسب الحرية التي منحها الله للإنسان بفعل الخير والشر، الصواب والخطأ ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا))(الإنسان ـ3). 
وعلى هذا، فالقيدود التي وضعها الشارع المقدس، لم تكن ضد حقوق الإنسان، إنما هي ضرورة من ضرورات نسقية الحياة والتوافقية الاجتماعية، بل وإنها لازمة مهمة من لوازم ممارسة الإنسان والإنسان الآخر لحقوقهم، باعتبار إن من أهم وظيفة للشريعة هو تنظيم حياة الأفراد بلا تنازع او تصادم او تزاحم.
والخلاصة، ان التشريعات الوضعية لم تفلح في تنظيم الحياة حتى في أرقى المجتمعات، في وقت كانت وما زالت التشريعات السماوية محل احترام وتوقير حتى ممن لم يلتزمها، مع إن فرصة تطبيقها لم تسنح بعد، بسبب تغطرس الإنسان واعتداده بما يراه قبالة ما يراه الله جل شأنه، مع إن الحيف الذي وقع على الإنسان ـ في حياة الأنبياء واوصياءهم ـ مرده إن المُطّبق لهذه التشريعات من سلاطين الجور ممن لم يستشعر العدالة الألهية، ولم يخشى رقابة رب العباد، فصار الظلم وأنتشر الحيف، بل واجتر الناس هذا الظلم على التشريع السماوي، ظنا منهم أنه السبب في ذلك، غافلين عن غياب التطبيق الحقيقي لحكم السماء. 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م