2 شوال 1446 هـ   31 آذار 2025 مـ 2:06 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | أخلاقيات الإسلام |  كيف يؤثر غياب الله في تفسير الأخلاق؟
2025-02-25   192

كيف يؤثر غياب الله في تفسير الأخلاق؟

الشيخ معتصم السيد أحمد

 

إن مسألة وجود الله ليست مجرد نظرية أو فكرة يمكن تجنبها أو الاستخفاف بها، بل هي نقطة محورية تؤثر بشكل جذري في تشكيل قناعات الإنسان ونظرته للعالم. فالسؤال حول وجوده يفتح المجال أمام تساؤلات أعمق حول حقيقة الكون، معنى الحياة، ومغزى المعاناة البشرية. 

فالافتراض الذي يقول إنه إذا كان الله موجوداً وهو راضٍ عن الظلم فلا يستحق الاعتراف به، يعكس خللاً في المنطق الذي يعتمد على الانتقال من قضية إلى أخرى دون ربط منطقي. فالمسألة تبدأ من السؤال عن وجود الله، ولا يمكن الانتقال إلى التساؤل عن عدالته أو رضاه عن الظلم دون إثبات وجوده أولاً. هذا الانتقال غير المبرر يُظهر أن الطارح لم يأخذ التفكير المنهجي بعين الاعتبار، بل اختار القفز السريع بين الأفكار دون بناء حجج منطقية تشكل أساساً لهذا التحليل.

 

إن مسألة "الاعتراف" بوجود الله هي مسألة تتعلق بالواقع الموضوعي، وليست مسألة خيار شخصي أو مزاجي. فالأشياء الموجودة في العالم ليست بحاجة إلى موافقة شخصية لكي تعتبر موجودة. عندما نقول إن الجبل موجود، نحن نصرح بحقيقة مادية مستقلة عن قبولنا الشخصي. ونفس الشيء ينطبق على مسألة وجود الله؛ ليس الإيمان به بمثابة اعتراف ذاتي بقدر ما هو استدلال منطقي على حقيقة قد تكون غائبة عن الحس الظاهري لكنها لا تزال موجودة في الواقع. لذلك، القول "حتى لو كان الله موجوداً فلا أعترف به" يتناقض تماماً مع منطق الاعتراف بالوجود، لأن نفي الاعتراف في هذه الحالة يعني نفي الوجود ذاته، وهو أمر لا يتماشى مع الحقيقة الموضوعية التي ينبغي أن ندركها بعيداً عن الأهواء الشخصية.

 

بعد تجاوز التناقضات التي غالباً ما يقع فيها الملحد، لابد من التطرق إلى القضية الجوهرية التي يثيرها، وهي مسألة الشرور والمظالم في العالم. فمن الطبيعي أن يسعى الإنسان للبحث عن العدل والخير في هذا الكون، لكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هو: ما هو المعيار الذي نستند إليه في تحديد الخير والشر؟ وما هو المصدر الذي يمنح هذه المفاهيم صفة الإطلاق؟ إذا كان الله موجوداً ككائن مطلق، فإنه يكون المعيار الأسمى والوحيد الذي يمكن أن يعتمد عليه الإنسان لتمييز الخير من الشر. أما إذا غاب هذا المصدر المطلق، فإن السؤال يصبح: من أين تأتي هذه المفاهيم؟ وهل هي نسبية ومرتبطة بالفرد أو المجتمع، أم أنها شيء ثابت لا يتغير بتغير الظروف؟

 

الإلحاد، كمنظومة فكرية مادية، لا يستطيع أن يفسر الأخلاق تفسيراً موضوعياً. فالخير، والعدل، والإحسان، والرحمة ليست صفات مادية يمكن قياسها أو تحليلها مخبرياً. وإذا كان الإنسان، وفقاً للنظرة المادية، مجرد مادة متحركة تحكمها قوانين بيولوجية، فمن أين تأتي هذه القيم الأخلاقية؟ وكيف يمكن أن يكون للإنسان وعي أخلاقي مستقل عن قوانين الطبيعة العمياء؟ كيف يمكن للإلحاد أن يقدم تفسيراً للأخلاق إذا كانت المفاهيم الأخلاقية ليست إلا أوهاماً بشرية؟

 

وهكذا، فإن الإلحاد يجد نفسه في مأزق عندما يحاول التحدث عن الأخلاق، لأنه إذا كان العالم مجرد مادة خاضعة لقوانين الطبيعة، فلا يوجد معنى للخير والشر إلا بوصفهما أوهاماً بشرية لا تستند إلى حقيقة موضوعية. وفي هذه الحالة، يصبح اعتراض الملحد على وجود الشر والمظالم في العالم اعتراضاً غير مبرر، لأنه لا يستطيع أن يفسر وجود الأخلاق من الأساس. وهذا يضعه في موقف فكري معقد، حيث تظل مسألة الأخلاق بلا أساس ثابت.

 

ومن ظرائف هذا الباب ما نشره الفيلسوف (ويليام لين كريغ) في موقعه الإلكتروني، في باب أسئلة القرّاء، تحت عنوان: (لقد دمّرتَ حياتي، بروفسور كريغ!)، وخلاصة الأمر أنّ صاحب السؤال كان طالب فلسفة في إحدى الجامعات الأمريكية، وقد أشرب قلبه الإلحاد حتى إن جلّ أبحاثه الجامعية كانت عن الإلحاد. وكان أن قرأ مقالاً لـ(كريغ) تحت عنوان: (عبثية الحياة من غير الله)، فاهتز له وجدانه، ولم ينم يومين متتاليين، غير أنه اجتهد لأشهر لإعداد رد عليه، وشعر بالسعادة والراحة لما انتهى من كتابة اعتراضه النقدي المطوّل. كانت خلاصة فكرة (كريغ) هي أنّ العقيدة الإلحادية المفرّغة من الإيمان بالله لا بد أن تؤول بالملحد إلى العدمية، بالمعنى الواسع للعدمية حيث لا قيمة لشيء في ذاته. شعر هذا الشاب أنّه لا بد من التسليم لما قرّره (كريغ)؛ ولذلك حاول بعد كتابته للردّ أن يعيش متناسقاً مع الإلحاد كمبدأ عقدي لأنّ مخالفة ذلك تعني أنّ فعله غير متناسق مع فكره النظري، ولكنّه لما وضع رجله في عالم (العدمية) صرخ: (إنّ العدمية لا يمكن أن تُعاش). لقد أصيب بالتأزّم النفسي، وانكفأ على نفسه في عزلة تامة؛ إذ أدرك أنّ الإيمان بالله هو الشيء الوحيد الذي بإمكانه أن يجعل للوجود معنى وأن يفكّ الألغاز التي تطارده بأشباحها، لتصبح الحياة بذلك قابلة لأن يعايشها الإنسان. وختم الشاب رسالته بقوله إنّه «ملحد يكره الإلحاد!».

 

 هذه القصة توضح بشكل واضح كيف يمكن للفرد أن يواجه صراعاً داخلياً حاداً عندما يحاول الإيمان بنظرة مادية تفتقر إلى أساس ثابت ومطلق.

 

ومن هنا، يتبين أن الإلحاد لا يمكنه الاعتراض على أخلاقية العالم إلا إذا اعترف أولاً بوجود الله، لأن الأخلاق لا تكون ذات معنى إلا بوجود معيار مطلق يُحدد الخير والشر. فإذا رفض الإنسان الإيمان بالله، فعليه أن يكون منسجماً مع رؤيته، ويتقبل أن الحياة بلا معنى، وأن الحديث عن المظالم هو مجرد تعبير عن مشاعر شخصية لا تستند إلى أي حقيقة موضوعية. في هذا السياق، تصبح الأخلاق في غياب الله مجرد قناعات فردية لا تستند إلى قاعدة ثابتة.

 

أما في المنظور الديني، فإن فهم العدالة يتطلب فهم طبيعة الحياة نفسها. فإذا كانت الحياة هي الجنة الأبدية التي لا يُفترض أن يواجه فيها الإنسان أي مكروه، فإن وجود الشرور والمظالم سيكون أمراً يتناقض مع العدل. لكن إذا كانت الحياة مجرد مرحلة اختبار وابتلاء، حيث يختار الإنسان بإرادته مصيره الأخروي، فإن وجود المصاعب والمحن يصبح جزءاً من هذا الامتحان، كما قال الله تعالى: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ" (العنكبوت: 2). فالشرور هنا ليست ظلماً، بل وسائل لتمحيص الإنسان واختياره لطريقه في الحياة. وتُعد هذه الرؤية جزءاً من الفهم الديني للعدالة الذي يأخذ في اعتباره الحكمة الإلهية التي قد تكون غير مفهومة بالكامل من منظور الإنسان المحدود.

 

وهكذا، فإن الحديث عن وجود الشر والمظالم لا يكون منطقياً إلا إذا انطلقنا من الإيمان بالله، لأن تفسير الأخلاق والقيم لا يكون ممكناً إلا في ظل وجود مصدر مطلق لها. أما الإلحاد، فإنه حين يعترض على هذه القضايا، يقع في تناقض واضح، لأنه لا يمتلك أساساً موضوعياً لتحديد الخير والشر من البداية.

 

الخاتمة:

في النهاية، تتضح الصورة بشكل جلي أن مسألة وجود الله لا تقتصر على كونها قضية فلسفية مجردة، بل هي أساسٌ جوهري يشكّل أساس التفكير الأخلاقي والوجودي للإنسان. إن التفكير في الأخلاق، في غياب هذا المعيار المطلق، يضع الفرد أمام مفترق طرق من التناقضات والشكوك التي لا يمكن حلها إلا إذا اعترف بوجود الله. بينما يعجز الإلحاد عن تفسير القيم الأخلاقية من خلال مفاهيم مادية، فإن الإيمان بالله يقدّم تفسيراً منطقياً وموضوعياً للأخلاق ويضع لها معياراً ثابتاً. لذا، يظل وجود الله أساساً لفهم معنى الحياة وهدفها، وفي غيابه، يبقى العالم بلا معنى حقيقي، ويغرق الإنسان في دوامة من الأسئلة التي لا يمكنه الإجابة عنها دون أن يتجاوز حدود المنظور المادي ويعترف بوجود مصدر أسمى يحدد قيمه وغاياته.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م