| رؤى وقضايا | بين الجمود والعقلانية: خيارات المسلم في الزمن المعاصر
بين الجمود والعقلانية: خيارات المسلم في الزمن المعاصر
الشيخ معتصم السيد أحمد: إن المسافة الفكرية بين المسلم الأول والمسلم المعاصر هي مسافة طبيعية ومتوقعة، ناتجة عن سلسلة من التغيرات التي شهدتها الإنسانية على مر العصور. ففي الوقت الذي استجاب فيه الإسلام في وقت بعثته لتحديات ووقائع زمانية ومكانية محددة، مرّ الإنسان بتطورات حضارية واجتماعية واقتصادية جعلت من الطبيعي أن تختلف مواقف المسلمين اليوم عن تلك التي كان يتبناها المسلمون في القرن السابع. هذه التغيرات شملت جميع جوانب الحياة الإنسانية من علوم وفنون وأيديولوجيات، وأثرت في كيفية تفكير الناس وتفسيرهم للأحداث والمفاهيم.
إن هذه المسافة الفكرية تتجلى في اختلافات واضحة بين تحديات العصر الأول، الذي شهدته مكة والمدينة، والتحديات المعاصرة التي يواجهها المسلمون اليوم في عالم متسارع التحولات. فمنذ فجر الإسلام، مرّ العالم بتطورات هائلة في مجال العلوم، والتقنيات، والسياسات، والعلاقات الدولية، ما أحدث تغييرات في أساليب التفكير والتواصل والفهم الديني. هذه التغيرات تجعل من الطبيعي أن يكون هناك نوع من الانفصال بين ما كان يُعدّ من المسلمات في عصر الصحابة والتابعين، وبين ما يعيشه المسلمون الآن من واقع معقد ومتعدد.
إلا أن المشكلة تكمن في أن الكثير من المسلمين اليوم لا يدركون هذه المسافة بشكل واعٍ، بل يميلون إلى الوقوع في فخ التفسير الحرفي للتاريخ والتراث، معتقدين أن كل ما كان يُعاش في الماضي يجب أن يُطبّق في الحاضر دون مراعاة الفوارق الجوهرية بين الظروف التاريخية القديمة والمتغيرات المعاصرة. هذا الانفصال بين الفهم المعاصر وفهم السلف يؤدي إلى تعميق الأزمات الفكرية، ويزيد من شعور الانعزال عن العالم الحديث. فإما أن يتشبث المسلمون بعادات وتقاليد قديمة لم تعد تصلح للزمان والمكان الحاليين، أو يظلون محاصرين بمفاهيم دينية ثابتة، مما يعوق تطور الفكر الإسلامي ويخلق حالة من الجمود الفكري.
من ناحية أخرى، نجد أن التراث الإسلامي أصبح مادة مغرية للنقد من قِبَل التيارات اللادينية، التي لا تعترف بالإسلام كدين قادر على تلبية متطلبات العصر الحديث. تلك التيارات ترى في الإسلام مجرد منتج تاريخي نشأ في ظروف خاصة، وتعتبر أنه من غير الممكن أن يكون هذا التراث ذا صلة أو دور حضاري في العصر الراهن. هذه الرؤية تتضمن رفضاً تاماً لأي دعوة لإحياء الفكر الإسلامي ضمن سياق المعاصرة، وتحاول أن تُصوّر الإسلام على أنه مجرد فكرة تاريخية، يمكن تأويلها وتغييرها بما يتناسب مع العصر.
التيارات اللادينية تستند إلى فكرة أن الإسلام، كما هو مُعاش في الكثير من مجتمعاته اليوم، ليس سوى نتاج لمرحلة تاريخية قديمة ولم يعد يمتلك أي قدرة على التفاعل مع القضايا المعاصرة مثل حقوق الإنسان، الديمقراطية، والتقدم التكنولوجي. هذه النظرة تُغفل عن العديد من الأبعاد في الفكر الإسلامي، والتي تتسم بالمرونة والقدرة على التكيف مع المتغيرات، بل إنَّ القرآن الكريم والسنة النبوية تتضمنان مبادئ يمكن أن تُقرأ في سياقات مختلفة، بما يتلاءم مع المستجدات.
إن مقاومة هذه التيارات اللادينية تتطلب من المسلمين اليوم أن يدركوا حجم المسافة الفكرية بين الواقع التاريخي والواقع المعاصر، وأن يتبنوا منهجاً تأويلياً مرناً قادراً على استيعاب تلك التغيرات. كما يجب أن يتجاوزوا التصورات الأحادية التي تجعل من التراث الإسلامي سجناً فكرياً، ويحاولوا أن يجددوا من خلاله في سياق يتماشى مع التحديات الحضارية المعاصرة. يجب على المسلم المعاصر أن يعيد تقييم العلاقة بين الفهم الديني القديم وبين الواقع المعاصر، ويستفيد من الاجتهادات الفقهية والتفسيرية التي سمحت بتطوير الفكر الإسلامي عبر العصور، مع التأكيد على الثوابت التي تبقى ثابتة.
المسألة الحاسمة هي أن التمسك بالتراث دون فهم سياقه التاريخي والتأثيرات التي أفرزت تلك الأفكار قد يُفضي إلى قناعات مغلوطة بشأن دين الإسلام وقدرته على النهوض بمستقبل المسلمين. ولذلك، يمكن للإسلام أن يبقى مصدراً لحضارة حية ومعاصرة إذا ما تمت قراءته بطريقة عقلانية تأخذ في اعتبارها المستجدات، وتفصل بين الثوابت والمتغيرات، وتركز على إعادة تفعيل المبادئ الإسلامية بما يتماشى مع متطلبات العصر.
العقلانية المتدينة خيار أمثل
اليوم، يواجه المسلم معضلة فكرية حقيقية تنبع من التحديات التي يفرضها التغير السريع الذي يشهده العالم من جميع الجوانب: العلمية، الثقافية، السياسية، والاجتماعية. ومع ازدياد التباين بين مختلف التيارات الفكرية، تتعدد الخيارات أمام المسلم المعاصر، وقد يتمكن من اتخاذ أحد هذه المسارات الثلاثة التي تعكس نوعاً من التفاعل مع النصوص الدينية والعقل.
1. خيار العقلانية المتدينة
إن الخيار الأول المتمثل في العقلانية المتدينة يقدم للمسلم إطاراً عقلانياً يمكنه من التفاعل مع النص الديني بعيداً عن الجمود التاريخي. هذه العقلانية تقوم على الجمع بين الوحي والعقل، بحيث يبقى المسلم ملتزماً بتعاليم الإسلام، لكن دون أن يكون أسيراً للصور التاريخية أو التفاسير التي قد تكون غير قادرة على التفاعل مع المستجدات. فالعقل في هذا الخيار يُنظر إليه كأداة تساهم في تفسير الدين بشكل يتوافق مع المتغيرات المعاصرة، ويُعتبر بذلك أن الإسلام ليس مجرد مجموعة من النصوص ذات مفاهيم جامدة، بل هو نظام ديناميكي يمكن فهمه وتطبيقه في جميع الظروف والتحولات.
العقلانية المتدينة لا تتناقض مع الإيمان، بل تحترم العقل كمصدر لفهم وتفسير الوحي. فهي تدعو إلى نظرة شمولية تجعل الدين وسيلة لفهم العالم المعاصر، مع مراعاة ضرورة التفريق بين الثوابت والمتغيرات. ففي هذا الخيار، يكون المسلم قادراً على الحفاظ على قيم الإسلام ومبادئه الأساسية دون أن يصبح فكره مقيداً بالقيود التاريخية أو الثقافية التي قد تمنع من تحقيق التقدم. وهكذا، تكون العقلانية المتدينة خياراً يحقق التوازن بين الوحي والعقل، ويسهم في بناء وعي حضاري عميق ومتجدد.
2. خيار اللا إيمان بالإسلام
أما الخيار الثاني، خيار اللا إيمان بالدين، فقد أصبح له وجود نسبي بين بعض الأجيال المعاصرة، خصوصاً في المجتمعات التي شهدت صراعات فكرية وحضارية. هذا الخيار يُعتبر بمثابة رفض شامل للفكر الإسلامي كمنتج تاريخي غير قابل للتكيف مع التحديات المعاصرة. من خلال هذا الطريق، يبتعد البعض عن الإسلام كدين وممارسة، متجهين نحو تيارات فكرية أخرى قد تكون شرقية أو غربية.
التيارات الفكرية التي ينجذب إليها البعض، مثل الإلحاد أو التوجهات العلمانية، ترفض الإسلام في صورته المشوهة، فهؤلاء الشباب قد يشعرون بالتنافر بين دينهم والعالم المعاصر الذي يعيشون فيه، ولذلك يلجؤون إلى هذه الخيارات كرد فعل على ما يعتقدون أنه تناقض بين الدين والعصر الحديث. والمشكلة في هذا الخيار تكمن في أنها اتخذت موقفاً خاطئاً من الإسلام، وموقفاً خاطئاً مما يحتاجه الواقع المعاصر، وبذلك يكونوا قد أضاعوا فرص الوصول إلى الحل الأمثل الذي يوفره الإسلام الحقيقي لأزمات الواقع الروحية والمادية.
3. خيار الإسلام التقليدي
أما الخيار الثالث، خيار الإسلام التقليدي، فيتمثل في العودة إلى الإسلام التاريخي كما تُقدمه بعض التيارات السلفية أو المتشددة. هذه الرؤية تقوم على التمسك بما كان عليه المسلمون الأوائل، وتصر على تطبيق الفكر الديني في شكله التاريخي دون مراعاة للمتغيرات الحديثة. هذا النوع من الفكر الديني يُعتبر، في العديد من الحالات، عائقاً أمام التفاعل مع العالم المعاصر لأنه يتبنى نموذجاً ثابتاً لا يتغير، ويُسهم في تعزيز الانعزال عن الواقع. كما أنه قد يقود إلى التضييق على العقل ويسمح بتفسير النصوص دون قدرة على تأويلها بما يتناسب مع التحديات الجديدة.
هذه الفكرة قد تؤدي إلى تعزيز حالة من التفكير الأحادي الذي لا يسمح بالنقد الذاتي ولا بالاجتهاد الفقهي الذي يمكن أن يتعامل مع قضايا العصر. على الرغم من احترام الموروث الإسلامي ورغبته في الحفاظ على تقاليده، إلا أن رفضه لأي نوع من التغيير أو التطوير قد يعمق من الأزمة الفكرية ويزيد من الفجوة بين المسلم والمجتمع العالمي المتقدم.
الموازنة بين الوحي والعقل
من هنا، نجد أن الخيار الأمثل بين هذه الخيارات الثلاثة هو الموازنة بين الوحي والعقل. لا يمكن للوعي الحضاري أن يتحقق في ظل التفكير الموجه أو المنغلق على الماضي. إن الاستنطاق العقلاني للنصوص الدينية بما يتناسب مع الظروف الراهنة هو الأساس لتحقيق فهم إسلامي شامل يواكب التطورات ويظل مرتبطاً بمبادئ الإسلام الأصيلة.
لذا، فإن العقل هنا لا يُنظر إليه كخصم للوحي، بل هو أداة مكملة و وسيلة لفهم أعمق للدين. إذا تمّ تعظيم العقل مع المحافظة على مرونة في فهم النصوص، فإن ذلك سيمكن الأمة الإسلامية من الوصول إلى فهم عميق لشريعتها، بما يتناسب مع تحديات العصر، ويُعزّز القدرة على التفاعل مع العالم.
من خلال هذا المنهج العقلاني المتوازن، يمكن للإسلام أن يقدم للمجتمعات المسلمة رؤية حضارية حديثة لا تتجاهل جذورها التاريخية، ولكنها تضعها في سياق جديد يلبي احتياجات العصر ومتطلباته.
إن الإسلام، كما ورد في رسالته الخاتمة، ليس مجرد دين يتّبع من أجل تلبية حاجات شخصية أو فردية، بل هو مشروع حضاري شامل يستهدف الإنسان في كليته، وينظر إلى التحديات التي يواجهها المجتمع البشري عبر الزمان والمكان. وهذا المشروع لا يقتصر على الانتماء الديني فقط، بل يتعداه إلى فهم عميق لحقائق الحياة وتنظيم العلاقة بين الإنسان ومحيطه بما يعكس قيم العدالة والمساواة والحرية.
المرونة الإسلامية
من أبرز ما يميز الإسلام عن غيره من الأنظمة الفكرية هو مرونته الاستثنائية التي تتيح له التكيف مع مختلف الأزمان والبيئات. هذه المرونة ليست مجرد قابلية لتكيّف خارجي مع الظروف المحيطة، بل هي جوهر في الرسالة نفسها. القرآن الكريم حث على التطوير المستمر للمفاهيم والآليات بما يتناسب مع التحديات المتجددة. كما أن الإسلام، باعتباره ديناً عاماً وشاملاً، لا يُمكن ربطه بأي فترة تاريخية بعينها، بل هو رسالة مفتوحة للعقل البشري ليواصل اكتشاف حقائق الكون ويتفاعل معها من خلال المفاهيم الأساسية التي لا تتغير مثل العدل، الحق، الرحمة، والمساواة.
بذلك، لا يُعتبر التجديد في الإسلام مجرد رد فعل على الظروف المعاصرة، بل هو جزء من دعوة القرآن ذاته الذي يأمر بالتطور المستمر وفقاً لما يتناسب مع مبادئه الكلية. فمن المهم أن نعلم أن التجديد في هذا السياق لا يعني التخلي عن الثوابت الدينية، بل يعني الابتكار في أدوات ووسائل تحقيق تلك الثوابت. وقد تجسد هذا في العديد من مواقف السلف الصالح الذين أظهروا قدرة على الاجتهاد في مواجهة قضايا لم تكن مطروحة في زمن الرسالة مباشرة.
لقد تناول القرآن الكريم هذا الجانب بوضوح عندما خاطب البشرية جمعاء من خلال آياته التي تبين الحاجة إلى الإدراك العقلاني الواعي لطبيعة الرسالة. القرآن لم يعطِ المسلمين فقط أدوات فكرية للعيش وفق تعاليم الدين، بل دعاهم إلى استخدام عقولهم في التفاعل مع الواقع وتفسير معاني الدين بما يتلاءم مع الحقائق الكونية المستجدة. في هذا السياق، أصبح العقل الإسلامي أداة لا غنى عنها في فهم النصوص الدينية ومعالجتها بطرق تأخذ في الاعتبار التغيرات الحضارية والزمانية.
من هنا، لم يكن الإسلام أبداً دينياً جامداً يُحتجز في قالب ثابت يفرض أنماطاً محددة، بل كان يتطلب إدراكاً عقلانياً عميقاً يتيح للإنسان المسلم أن يجد في الدين ما يتماشى مع متغيرات عصره دون المساس بالجوهر. هذه الرؤية العالمية تضمن أن الرسالة الإسلامية تكون دائماً ذات صلة، قادرة على التفاعل مع الواقع المعاصر.
وفي النهاية، من الضروري التأكيد على أن الإسلام هو دين يحمل في طياته قوة فكرية وعقائدية ذات قدرة على الاستمرار والتطور. فالموازنة بين الوحي والعقل هي السبيل الفعّال لبقاء الإسلام قوة حية في مجتمعاتنا المعاصرة، بحيث يكون له حضور واقعي يعكس العطاء الحضاري المستمر. فمن خلال العقل المدعوم بالإيمان، لا يبقى الإسلام مجرد تراث تاريخي يُحتفظ به في الكتب، بل يصبح قوة حية ومتجددة تستمر في الإبداع والإصلاح في كل عصر.
من خلال هذه الرؤية المتكاملة، يمكن للإسلام أن يكون قوة حضارية تساهم في تشكيل عالم معاصر أكثر انسجاماً مع القيم الإنسانية الرفيعة.