| رؤى وقضايا | معطيات الوحي واكتشافات الإنسان.. معالجة علوية
معطيات الوحي واكتشافات الإنسان.. معالجة علوية
الشيخ مقداد الربيعي: منذ عصر التنوير، آمن بعض فلاسفة الغرب بأن البشرية دخلت عصر العلم وانتهى دور الدين، وكان من أبرز هؤلاء الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت. قسّم كونت الفكر البشري إلى ثلاث حقب: ففي حقبة الجهل، نسب الإنسان الظواهر الطبيعية إلى الآلهة، ومع نضوج الفكر اليوناني، بدأ ينسبها إلى أسباب فلسفية. وعند انطلاق العلم التجريبي، استطاع الإنسان أن يكتشف الأسباب المباشرة والقريبة للظواهر المادية.
وقد رأى هؤلاء الفلاسفة أن تطور المعرفة العلمية يقلل الحاجة إلى التفسيرات الدينية، حتى يُظن أن البشرية ستستغني عنها تمامًا. ورغم انتشار هذه الفكرة في الأوساط العلمية حتى يومنا هذا، إلا أنها واجهت تناقضات وإشكالات، خصوصًا لأنها تعتمد على مبدأ حصر المعرفة في التجربة العلمية، بينما نفسها غير قابلة للتحقق تجريبيًا، ما يجعلها تفتقر إلى الصدقية العلمية بمنطقهم.
وفي الحقيقة ان قصر النظر على السبب المادي للظاهرة الطبيعية هو الفارق الرئيس بين الألحاد والإيمان. ويمكن استفادة ذلك من قوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ .. الآية)، البقرة: 2 ـ 3، فيصف المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب، بينما يصف الكافرين بالغفلة عنه، وأنهم لا يعلمون إلا ظاهرًا من الحياة الدنيا، فيقول: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)، الروم: 7، فيحدد الفارق الرئيس بين المؤمن والكافر، وهو الاعتقاد بما وراء المادة، فيقصر الكافر نظره على الطبيعة والقول بأصالة المادة، بينما يكون أفق المؤمن أوسع، فيعتقد بوجود ما هو خارج حدود المادة والادراك الحسي.
وأمام هذين المنظورين الفلسفيين، نجد أن كلام أئمة أهل البيت عليهم السلام يرسم توازنًا دقيقًا بين الدين والعلم، فقد روى الصدوق في توحيده: حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا أبو الخير صالح بن أبي حماد، قال: حدثني أبو خالد السجستاني، عن علي بن يقطين، عن أبي إبراهيم عليه السلام، قال: «مر أمير المؤمنين عليه السلام بجماعة بالكوفة وهم يختصمون في القدر، فقال لمتكلمهم: أبالله تستطيع أم مع الله أم دون الله تستطيع؟!
فلم يدر ما يرد عليه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إنك إن زعمت أنك بالله تستطيع فليس لك من الأمر شيء، وإن زعمت أنك مع الله تستطيع فقد زعمت أنك شريك معه في ملكه، وإن زعمت أنك من دون الله تستطيع فقد ادعيت الربوبية من دون الله، عز وجل، فقال: يا أمير المؤمنين لا، بل بالله أستطيع، فقال عليه السلام: أما إنك لو قلت غير هذا لضربت عنقك». التوحيد، ص353.
ومراده عليه السلام: أن الفاعل والسبب المباشر للفعل والظاهرة الطبيعي يستمد قدرته ووجوده من الله تعالى، فهو فعل بتوسط قدرة الله تعالى وعلمه، ولولاها للزم الشرك او ادعاء الاستقلال والربوبية. أجارنا الله وأياكم.
فالعلم القائم على التجربة وإن اكتشف السبب المادي المباشر، إلا أنه غفل عما يستبطنه هذا السبب من وجود مفاض من قبل الله تعالى، فالسبب وإن كان بحسب الظاهر هو الفاعل المباشر إلا ان هذا السبب وجوده متجدد سيال، لم يزل يتجدد على مدار أجزاء الثانية الواحدة.
هذا ما أكدته الأبحاث العلمية ـ نحاول هنا الإجمال تخفيفاً على القارئ، ومن أراد التوسعة عليه بكتاب "صيرورة الكون" للدكتور محمد باسل الطائي، ص205 وما بعدها ـ ففي بحث العلماء عن كيفية حدوث العناصر الأولية للطبيعة، خلصوا الى أن العناصر الأولية نشأت من أجزاء تحت ذرية، وهذه الأخيرة أصلها جسيمات مجازية الوجود، أي أننا لا يمكن اعتبارها موجودة فيزيائياً، لأن الموجود الفيزيائي هو الذي يتحقق بأقل جزء زماني ممكن تصوه وهو ثابت بلانك الذي يساوي 10 أس ناقص 21 جزء من الثانية، أي جزء من مليار ترليون جزء من الثانية وما كان يتحقق ويزول في زمان أقل من ذلك فلا يعتبر موجوداً فيزيائياً، وهذه الجسيمات المجازية التي توجد وتعدم في زمان أقل من زمان بلانك هي المادة الأولية التي تكون الذرات ومن ثم العناصر والأجسام المركبة، وبالتالي فمهما كان حجم الظاهرة الطبيعية كبيراً فإنه ينتهي الى هذه الجسيمات المجازية التي توجد وتعدم في أقل من زمان بلانك، وهنا يكمن تدخل الله سبحانه، فهو من يبسط الرزق او يقبضه حيث يشاء، فله أن يفيض وجوداً لهذه الجسيمات وله أن يمنع ويقبض يده.
وخلاصة ما نريد بيانه، أن الدين لا يمنع عن رجوع الظواهر المادية لأسباب مادية مباشرة، لكن هذه الأسباب لابد أن تنتهي لموجد لها خارج نطاق المادة.
وكثيرة هي تصريحات علماء الدين في ذلك، وخذ كلام العلامة الطباطبائي كإنموذج، ففي بحثه عن إمكان تأثير الجان والشيطان على الإنسان وتسبيبه الجنون له، وعدم تعارض ذلك مع رجوع المرض النفسي لأسباب مادية قال: «على أن استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة بل الأسباب الطبيعية كاختلال الأعصاب والآفة الدماغية أسباب قريبة ورائها الشيطان، كما أن أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الأسباب الطبيعية في البين، وقد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن أيوب عليه السلام إذ قال: " أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " ص - 41، وإذ قال: " أني مسني الضر وأنت ارحم الراحمين " الأنبياء - 83، والضر هو المرض وله أسباب طبيعية ظاهرة في البدن، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعية إلى الشيطان.
وهذا وما يشبهه، من الآراء المادية التي دبت في أذهان عدة من أهل البحث من حيث لم يشعروا بها حيث إن أصحاب المادة لما سمعوا الإلهيين يسندون الحوادث إلى الله سبحانه، أو يسندون بعضها إلى الروح أو الملك أو الشيطان اشتبه عليهم الامر فحسبوا أن ذلك إبطال للعلل الطبيعية وإقامة لما وراء الطبيعة مقامها، ولم يفقهوا ان المراد به تعليل في طول تعليل لا في عرض تعليل، وقد مرت الإشارة إلى ذلك في المباحث السابقة مرارا» الميزان ج2، ص413.
في الختام.. ان الدين لا يتقاطع مع العلم في كشفه عن الأسباب المادية المباشرة للظواهر الطبيعية، إلا أن دور العلم ينتهي عند تخوم وحدود عالم المادة، فإذا اتضح ضرورة رجوع المادي لغير المادي فيأتي دور الدين لكشفه وبيانه. فيتضح تكامل العلم والدين، وأنهما في طول بعضهما.