25 ذو القعدة 1446 هـ   23 أيار 2025 مـ 10:47 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | رؤى وقضايا  |  العلم والإلحاد: مغالطة التوظيف الخاطئ للمنهج العلمي
2025-05-04   152

العلم والإلحاد: مغالطة التوظيف الخاطئ للمنهج العلمي

الشيخ معتصم السيد أحمد
يحب الملاحدة الجدد أن يلبسوا رداء العلماء، ويوحون لقرائهم بأن 'العلم معهم'، وكأن الإيمان بالله فكرة تنتمي للعصور الحجرية. فمن المغالطات الكبرى التي يقع فيها البعض في نقاشاتهم حول الدين والإلحاد، الزعم بأن الإلحاد يستند إلى العلم أو ينبثق عنه. بل إن بعض الملاحدة المعاصرين يقدّمون أنفسهم بوصفهم ممثلين لـ"منطق العلم"، في مقابل المؤمنين الذين يُصوَّرون وكأنهم أسرى للخرافة أو أسرار الغيب التي لا يمكن التحقق منها. وهذه الدعاية – رغم ركاكتها المنهجية – تجد صدى عند شريحة من الناس، خاصة أولئك الذين لا يمتلكون خلفية معرفية متينة تُمكّنهم من التمييز بين ميادين البحث العلمي المختلفة، ولا يعرفون الفرق بين موضوعات العلوم الطبيعية ومناهجها، وموضوعات العلوم الإنسانية والفلسفية وأدواتها.

ويبدو من الضروري في هذا السياق أن نعيد ترتيب المفاهيم الأساسية التي تسمح لنا بتقييم هذا الادعاء ومعرفة مدى علميته أو عقلانيته، لأن القول بأن الإلحاد "علميّ" هو في حقيقته مغالطة مزدوجة: أولاً في تحديد موضوع العلم، وثانياً في تحديد وظيفة العالم.

فالعلم الطبيعي، سواء كان فيزياء أو كيمياء أو أحياء أو غيرها من فروع المعرفة التجريبية، يتعامل مع الظواهر القابلة للرصد والقياس، ويبحث في العلاقات الثابتة بين المتغيرات، ويقوم على قواعد صارمة من الملاحظة والتجريب والاختبار. في حين أن الأسئلة الكبرى المرتبطة بوجود الله، وغاية الوجود، والمعنى، والمصير، لا تدخل ضمن نطاق هذه العلوم، بل تنتمي إلى مجالات الفلسفة، وعلم الكلام، وعلم النفس، والأنثروبولوجيا، وغيرها من الحقول التي تُعنى بما هو إنساني بالدرجة الأولى.

ومن هنا، فإن العالم الطبيعي – كدوكنز أو هوكينغ أو غيرهما – حين يتحدث عن قضايا الإيمان أو الإلحاد، فإن حديثه لا يُعد امتداداً لتخصصه العلمي، بل هو انتقال إلى ميدان فكري آخر لا تحكمه أدوات المختبر، ولا تُبنى أحكامه على التجربة الفيزيائية أو البيولوجية. وفي اللحظة التي يعبّر فيها عالم الأحياء أو الفيزياء عن رأيه في الدين أو وجود الخالق، فإنه لا يتحدث كصاحب سلطة علمية داخل مجاله، بل كمفكر يقدّم وجهة نظر شخصية تخضع للنقد والتحليل كغيرها من الآراء الفلسفية. ومن المغالطات الشائعة أن يُظن أن كل ما يصدر عن عالم مرموق هو كلام علمي بالضرورة، بينما حقيقة الأمر أن الرأي الذي يُطرح خارج نطاق التخصص لا يكتسب قوته من شهرة صاحبه، بل من قوة حجته وتماسك منطقه.

بل أكثر من ذلك: المنهج العلمي الطبيعي نفسه لا يدّعي القدرة على الإجابة عن الأسئلة الغائية أو الوجودية. فهو يكتفي بوصف "كيف" تحدث الأشياء، دون أن يخوض في سؤال "لماذا" تحدث. العلم يدرس ظاهرة الحياة، لكنه لا يقرّر إن كانت للحياة غاية، ولا يفسّر "لماذا" ينبغي على الإنسان أن يعيش حياة ذات معنى. وهذا هو الفارق الجوهري بين وصف الواقع وبين تأويله، بين فهم قوانين المادة وبين طرح الأسئلة الكبرى عن القيم والمعنى والغاية.

وعليه، فإن عالم الطبيعة حين يتكلم في هذه الأمور، لا يمتلك امتيازاً معرفيّاً على غيره من الفلاسفة أو المتكلمين أو علماء النفس أو حتى الأشخاص العاديين الذين تأملوا في الوجود ولهم خبرة فكرية أو روحية. فهذه المسائل تنتمي إلى مجال مختلف يُسمى في فلسفة المعرفة بـ"العلوم الإنسانية" أو "المجالات التأملية"، وهي علوم تتطلب أدوات ومنهجيات لا يشترط فيها التجريب الحسي، بل تعتمد على التحليل العقلي، والبناء المنطقي، والدراسات المقارنة، وأحياناً على التجربة الشخصية والوجدانية.

إن الخطأ الشائع هو الظن بأن كل من يحمل لقب "عالم" يُعد مرجعية في أي حقل، بينما الواقع أن المرجعية تنبع من الاختصاص، ومن احترام منطق كل علم ومنهجه. فكما لا يقبل أحدٌ أن يُفتي عالم فلك في قضايا الطب، أو أن يُدلي عالم رياضيات برأيه في الجراحة العصبية من موقعه العلمي، كذلك لا ينبغي قبول قول عالم الطبيعة في الإيمان والإلحاد بوصفه "كلمة علمية نهائية".

ومما يؤكد هذا المعنى أن كثيراً من العلماء الطبيعيين – رغم براعتهم – حين يتحدثون عن الدين يخلطون بين المفاهيم، ويقعون في مغالطات معرفية واضحة، كأن يعتبروا أن الدين يناقض العلم لمجرد أنه يتحدث عن الغيب، أو أن الإيمان يتنافى مع العقل لأنه لا يقوم على التجربة المباشرة، أو أن الله "فجوة" تملأ ما لم يستطع العلم تفسيره. وهذه كلها مفاهيم غير دقيقة، وتدل على عدم اطلاع كافٍ على التراث الفلسفي والديني، أو على الأبعاد العميقة للإيمان.

وفي مقابل ذلك، نلاحظ أن علماء كباراً في نفس المجالات – ومن أصحاب الجوائز العلمية – يؤمنون بالله، أو على الأقل يقرّون بأن أسئلة الإيمان لا يمكن حسمها بالعلم الطبيعي، بل تتجاوز حدوده إلى مجالات أخرى من التفكير والتأمل. فلم يكن ألبرت آينشتاين، مثلاً، ملحداً بالمفهوم الدارج، بل عبّر مراراً عن إحساسه بجلال الكون ونظامه، وأن ذلك يستدعي نوعاً من "الإيمان الكوني" بوجود عقل منظّم. وكان الفيزيائي الشهير ماكس بلانك يصرّح بأن الدين والعلم لا يتعارضان لأنهما يتناولان مجالات مختلفة: الدين يتعامل مع المعنى والغاية، والعلم مع الظواهر والمظاهر.

وهنا نحتاج إلى توضيحٍ جوهري في الفرق بين طبيعة العلوم، لكي ندرك خطورة التداخلات غير المنضبطة بين الميادين. فالعلم الطبيعي محكوم بعلاقة بين إنسان ملاحظ وطبيعة تُلاحَظ. ثمة انفصال نسبي بين الذات والموضوع، وهذا ما يسمح بقدر عالٍ من الموضوعية في دراسة القوانين الكونية، مثل قانون الجاذبية أو التفاعلات الكيميائية أو بنية الحمض النووي. هذه الظواهر لا تتأثر بقناعات الباحث ولا بمزاجه الشخصي. أما في العلوم الإنسانية، فالإنسان هو ذاته الموضوع والملاحظ، أي أن هناك تداخلاً لا يمكن الفكاك منه، وهو ما يستدعي أدوات فهم مختلفة: التأمل الفلسفي، التحليل النفسي، التاريخ، اللسانيات، والسياقات الاجتماعية والثقافية.

مثلاً، حين نطرح سؤالاً من قبيل: هل الإنسان مفطور على الإيمان بالله؟، فإننا لا نستطيع أن نخضع هذا السؤال لتجربة مخبرية محضة، بل نحتاج إلى قراءة متعددة الأبعاد، تشمل طبيعة الوعي الإنساني، وحاجته للمعنى، وتجليات التدين في الثقافات المختلفة، وتجارب الإيمان على مرّ العصور، بل وحتى اللغة الدينية في الفنون والآداب. وهذا ما لا يستطيع عالم الأحياء أن يجيب عنه بمجرد أدواته المختبرية.

وحين يدعو أحد الملاحدة – كما يفعل بعضهم – إلى "الإذعان للعلم والعلماء" بوصفهم المرجعية العليا في كل قضية، فهو يقع في مغالطة "السلطة الزائفة"، حيث ينقل سلطة العالم من مجال تخصصه إلى مجالات أخرى دون مسوّغ. وهذه المغالطة تُشبه تماماً أن يستفتي الإنسان طبيب أسنان في مسائل القانون، أو أن يستشير مهندساً في قضايا الطب. لا يمكن للعقلاء أن يقبلوا بذلك، لكنهم – للأسف – قد يقعون في هذا الفخ حين يكون العالم المتكلم هو أحد نجوم الإعلام أو مؤلفاً لكتب جذابة بأسماء رنانة.

وهذا ما نلاحظه عند قراءة كتب دوكنز وسام هاريس وستيفن هوكينغ وغيرهم، الذين خلطوا بين الإنجاز العلمي في مجالاتهم، وبين التوظيف الدعائي لفكرة "العلم مقابل الدين". فهم يستثمرون هيبتهم العلمية لكسب جمهور جديد لأفكارهم الشخصية، ويقدّمون أنفسهم بوصفهم صوت العقل في وجه اللاعقلانية، بينما هم – في الحقيقة – يمارسون نمطاً من الإقناع العاطفي يعتمد على مهاجمة خصم مشوَّه، لا على حجة معرفية رصينة.

والأنكى من ذلك أن بعض أتباعهم يكرّرون نفس الخطاب دون وعي بالخلل المنطقي فيه، فينبهرون بالأسماء الكبيرة والألقاب الأكاديمية، وكأن هذه الألقاب تمثل برهاناً كافياً على صحة القول، وهذا شكل من أشكال التفكير الطفولي الذي يُقاس فيه الحق بالأشخاص لا بالعكس.

إنّ الواجب على العاقل حين يسمع قولاً مثل: "لماذا لا تُذعنون للعلم والعلماء؟" أن يسأل ببساطة: أيّ علم تقصد؟ وفي أيّ مجال؟ وهل القائل يتحدث كعالم متخصص؟ أم كمفكر يعبّر عن رأيه؟ وهل من مقتضيات "الإذعان للعلم" أن نؤمن بأن الأخلاق وهم، وأن الحب مجرد تفاعلات كيميائية، وأن المعنى لا وجود له إلا في أوهام الدماغ؟

إن الدفاع عن العقل والعلم لا يكون بتأليه العلماء، ولا بتحويلهم إلى كهنة جدد لا يُردّ لهم قول. بل يكون بإرجاع كل قول إلى ميزان الدليل، وكل فكرة إلى مجالها المناسب، وبهذا وحده نستطيع أن نحترم العلم ونُبقي على توازن العقل، دون أن ننزلق إلى خرافة جديدة اسمها "العلمانية المتطرفة" التي تلغي الإنسان وتؤلّه المختبر. فالعقل لا يخضع لسلطة المختبر، كما أن الحقيقة لا تقف عند حدود أنابيب الاختبار.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م