

| رؤى وقضايا | حدود المنهج التجريبي وأزمة الرؤية المادية
2025-06-07 48

حدود المنهج التجريبي وأزمة الرؤية المادية
الشيخ معتصم السيد أحمد
لقد مثّل الفكر المادي إحدى أبرز
التجليات الفلسفية في العالم الحديث، وهو يقوم على فرضية أساسية
مؤداها أن الوجود لا يتعدى ما هو مادي محسوس، وأن كل ما لا يقع تحت
قبضة الحواس ولا يخضع للتجربة المختبرية هو محض وهم أو تصور مثالي
لا واقعية له. من هنا تبدأ إشكالات المادية وتتفرع، فبما أن المادي
لا يعترف إلا بما هو محسوس، فإن سؤاله عن أصل الوجود وغاياته محكوم
سلفاً بمنهج قاصر لا يستطيع أن يتجاوز الجزيئات والمجهر
والمختبر.
إن السؤال الفلسفي القديم "من أين
جئنا؟ ولماذا نحن هنا؟ وإلى أين المصير؟" لا يمكن للمادي أن يجيب
عنه بشكل مقنع، لأنه محكوم بمنظور يرى في الكون مجرد ذرات وتفاعلات
فيزيائية، وهو ما يجعل رؤيته للوجود مشوهة ومبتورة. فحين تُختزل
حقيقة الوجود في الزمان والمكان، ويُنفى ما وراء المادة، فإن كل
مفردات التجربة الإنسانية الكبرى، من الوعي والضمير إلى الجمال
والغائية والروح، تصبح غير مفهومة وغير قابلة للتفسير.
والإشكال لا يقف عند حدود الفلسفة
بل يتعداه إلى العلم نفسه، فالمادية لا تكتفي بإلغاء الغيب، بل
تدّعي احتكار الحقيقة العلمية وكأنها الكلمة الأخيرة في تفسير
الوجود. غير أن هذا التصور يتعارض مع طبيعة العلم ذاته، خصوصاً
العلم الطبيعي الذي يقوم على مبدأ الاستقراء، أي تتبع الجزئيات
للوصول إلى قواعد عامة. والمنهج الاستقرائي بطبيعته لا يمكن أن يكون
تاماً، لأن الواقع الذي يسعى إلى وصفه غير محدود في تجلياته
وأبعاده، بينما أدوات العلم – من الحواس والمجاهر والمختبرات –
محدودة بطبيعة الحال، سواء من حيث القدرة على الرصد أو من حيث
الزمان والمكان. فحتى لو تمكّن العلماء من رصد آلاف الحالات أو
التفاعلات، تبقى هناك احتمالات غير مرصودة، قد تنقض ما تم
تعميمه.
وبالتالي، فإن ما يُسمّى بالقوانين
العلمية ما هي إلا صيغ مؤقتة قابلة للتعديل والنقض عند ظهور معطيات
جديدة، وهو ما يحدث فعلاً على مرّ التاريخ العلمي. فكم من نظرية
كانت راسخة لعقود، ثم أُعيد النظر فيها أو استُبدلت بأخرى، مما يدل
على أن اليقين المطلق ليس من طبيعة العلم التجريبي. ومن هنا فإن
التبجّح بكون "العلم المادي" قادر على تفسير كل شيء – من نشأة الكون
إلى نشوء الحياة والوعي والضمير – ليس سوى موقف أيديولوجي متطرف، لا
علاقة له بالروح العلمية الحقيقية، التي تقوم على الشك المنهجي
والتواضع المعرفي.
إن هذا الغلو في تقديس المنهج
الحسي التجريبي، وتحويله إلى مرجعية مطلقة، هو خروج عن طبيعة العلم
ذاته، وتحويله إلى شكل من أشكال "الإيمان الدنيوي" الذي لا يختلف في
بنيته النفسية عن الإيمان الغيبي الذي يهاجمه. فبدلاً من الاعتراف
بحدود المعرفة البشرية والحاجة إلى أدوات معرفية أخرى – كالعقل
المجرد والوحي – يتم إسكات كل ما لا يقع تحت المجهر بحجة
"الواقعية"، في حين أن الواقعية الحقيقية تستلزم التفتح على جميع
أدوات الإدراك، لا حصرها في قناة واحدة ضيقة.
إن هذا القصور المنهجي لا يعترف به
الماديون، بل يواصلون بناء أطروحاتهم الميتافيزيقية على أسس تجريبية
خالصة، مدّعين الواقعية والموضوعية، رغم أن منهجهم ذاته لا يُثبت
إلا ما هو قابل للرؤية أو اللمس أو القياس. فهم، من جهة، يتبجحون
بالحياد العلمي والصرامة المنهجية، لكنهم، من جهة أخرى، يسقطون في
تناقض واضح حين يطلقون أحكاماً ميتافيزيقية قطعية حول الوجود
والعدم، والحياة والموت، والروح والمصير، وكلها أمور تقع خارج دائرة
الحس، ولا يمكن للمنهج التجريبي أن يتحقق منها أو ينفيها. وهكذا
نجدهم يستبعدون العقل المجرد – الذي هو أساس كل تفكير فلسفي ومنطقي
– تماماً كما يرفضون الوحي الذي يُعد مصدراً معرفياً قائماً بذاته،
له منطقه الخاص وسياقه المختلف، ليستبدلوا ذلك كله بمنظومة فكرية
مغلقة لا تعترف إلا بما هو مادي محسوس، مع أن الحس نفسه ليس
معصوماً، ولا كافياً لفهم كل أبعاد الوجود.
وما يزيد في التناقض أن الماديين
لا ينقضون المقولات الدينية أو الروحية انطلاقاً من تفنيد منطقي أو
براهين قاطعة، وإنما يرفضونها ابتداءً لأنها تقع خارج النطاق الذي
قرروا مسبقاً أنه وحده معيار الحقيقة. وهذا هو عين المصادرة على
المطلوب، إذ لا يجوز في منطق البحث العلمي أن تُرفض الفرضيات لمجرد
أنها لا تنسجم مع الأطر المعرفية التي تبنّاها الباحث، بل يُفترض
تحليلها وفحصها ضمن شروطها الخاصة. فرفض وجود الخالق، أو إنكار
الروح، أو التهكم على الغاية الكونية، دون الدخول في نقاش عقلي
حقيقي، ليس منهجاً علمياً كما يدّعون، بل هو موقف أيديولوجي يلبس
ثوب العلم، بينما يعكس في جوهره انغلاقاً معرفياً وجهلاً
نقدياً.
وبذلك يتحول ما يدّعونه من
"واقعية" إلى نوع من الدوغمائية الحديثة، التي تنكر الغيب لا لأنها
فحصته ولم تجد له دليلاً، بل لأنها لا تؤمن إلا بما يدخل تحت
مجهرها، ولو أنكر المجهر ذاته وجود أشياء كثيرة لا تدركها الحواس،
كالمجال المغناطيسي أو الطاقة المظلمة أو حتى مفاهيم مثل الوعي
والإرادة.
لكن السؤال الجوهري هو: هل كل ما
لا يدركه الحس غير موجود؟ العقل الإنساني ذاته، وهو أداة المادي في
تحليله، غير مادي. الوعي لا يمكن إخضاعه للتجربة المختبرية،
والرياضيات التي يُبنى عليها العلم الفيزيائي هي منظومة عقلية
مجردة. فهل نقول إن هذه جميعاً مجرد أوهام؟!
ومن جهة أخرى، فإن الإيمان بالخالق
لا يستند فقط إلى تعاليم دينية، بل إلى براهين عقلية رصينة. فالخالق
لا يمكن أن يكون مادياً، لأنه في هذه الحالة سيكون محتاجاً إلى زمان
ومكان، أي محدوداً، والمحدود لا يُنتج المطلق. إن وجود الله المطلق
ضرورة عقلية لاستيعاب أصل هذا النظام الكوني الدقيق، لأن المادة لا
تفسر نفسها، ولا تنتظم بنفسها، ولا تمنح الغاية لنفسها.
أما القرآن الكريم، فقد حسم الجدل
في هذا الباب بكلمات محكمة، حين قال: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ
شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾. هذه الآية تقف كمرآة أمام العقل،
فإذا لم يكن الإنسان قد خلق نفسه، ولا نشأ من عدم بلا خالق، فلا بد
أن وراءه موجداً عالِماً حكيماً. وإن ادعى المادي أن الخلق بدأ
بمصادفة، نسأله: هل المصادفة تُنتج نظاماً بالغ الدقة، مستمراً
لملايين السنين دون اختلال؟ وإن قال: بدأت الحياة من خلية، قلنا:
ومن أنشأ الخلية، ومن زودها بالشيفرة الوراثية المعقدة، ومن أعطاها
الوعي الذاتي؟ هذه الأسئلة لا يمكن أن تُجاب من داخل المنهج
التجريبي نفسه.
والقرآن لا يكتفي بإثبات وجود
الخالق، بل يعرض صفاته الكمالية: أنه الأول والآخر، الظاهر والباطن،
العليم الحكيم، لا يشبهه شيء، وهو منزه عن كل نقص وحدّ. كما أنه
يتحدى من يدّعي خلقاً أو فعلاً ذاتياً أن يأتي بدليل. ﴿إِنَّ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً
وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾. هذا التحدي لا يزال قائماً، رغم كل ما
أنجزته البشرية في ميادين الصناعة والذكاء الاصطناعي والهندسة
الوراثية، لأن ما يفعله الإنسان لا يعدو أن يكون إعادة ترتيب لعناصر
خلقها الله، لا خلقاً من العدم.
ومن العجيب أن الماديين، رغم
إنكارهم للغيبيات، قد تحقق فيهم غيب أخبرنا به القرآن منذ أربعة عشر
قرناً: ﴿مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَا
خَلْقَ أَنفُسِهِمْ﴾. فقد أنبأنا الوحي أن هناك من سيضل ويتحدث بغير
علم عن الخلق، ويزعم ما لا يدرك، وينكر ما لا يراه، ويجادل فيما لا
يملك له حجة. ومع ذلك يظنون أنهم المتنورون، بينما يقفون في الظلام
يرفضون كل ما لا يلمسونه بأصابعهم.
إن الرؤية المادية إذن، لا تفسر
الوجود بل تعقّده، لا تبني معرفة بل تُولّد شكوكية مفرطة، لا تصنع
نوراً بل تزرع عمى معرفياً. وإن أعظم المفارقات أن تصبح هذه الرؤية
التي تنكر الغيب، دليلاً عليه، حين تتحقق بها النبوءات القرآنية
الواحدة تلو الأخرى.
وفي الختام، فإن الخالق الذي أوجد
الشمس لم يحتج أن يوقّع اسمه عليها، لأنه زرع في الفطرة والعقل ما
يدل عليه، وترك للقرآن مهمة البيان. ومن لا يرى ذلك، فليس العمى في
عينه، بل في قلبه.
الأكثر قراءة
32042
19328
14836
11532