

| أفكار ونظريات | الله والعلم: من "سد الثغرات" إلى أساس لفهم الكون
2025-05-04 144

الله والعلم: من "سد الثغرات" إلى أساس لفهم الكون
الشيخ مقداد الربيعي
نحت اللاهوتي الإسكتلندي هنري
درموند مصطلح "إله الفراغات" (God of the gaps) في القرن التاسع
عشر، كتحذير للمؤمنين من اختزال الإله في دور "سد الثغرات"
المعرفية. فقد كان درموند يخشى أن يتقلص دور الله في عقول الناس
كلما توسعت المعرفة العلمية، مما يجعل الإيمان في حالة تراجع مستمر.
فقد وصف نيتشه عمل الرهبان بأنهم «يحشرون في كل فجوة وهمهم، أو ما
يغلق الفجوة، والذي يسمونه الإله».
هذا المفهوم أصبح لاحقاً
سلاحاً في يد منتقدي الدين، الذين يرون أن تطور العلم يقلص مساحة
الإيمان تدريجياً حتى يصبح الإله غير ضروري للتفسير.
العلم والإيمان: علاقة تكاملية لا
تنافرية
يدّعي بعض معتنقي الفكر الإلحادي
أن الثورة المعرفية العلمية قد أزاحت الحاجة للإيمان بوجود خالق،
مصورين العلاقة بين الإيمان والمعرفة العلمية كصراع لا مهادنة فيه.
غير أن هذا الطرح يخفي خلطاً منهجياً جوهرياً ويتغافل عن العلاقة
التكاملية الحقيقية بين هذين المنظورين.
تقدم الأطروحات الإلحادية نفسها
كمنهجية فكرية ترى في العلم التجريبي المصدر الوحيد للمعرفة الحقة،
معتبرة أن كل ما لا يخضع للقياس والتجربة لا يستحق الاعتبار. هذه
النظرة الاختزالية تفترض قدرة المنهج العلمي على تفسير كافة الظواهر
بلا استثناء، مما يجعلها تستبعد فرضية الإيمان بالخالق باعتبارها
زائدة عن الحاجة.
مغالطة التنافي المزعوم
يقع هذا التصور في مغالطة التضاد
المفترض، إذ يُصوّر العلاقة بين العلم والإيمان كثنائية حدية لا
تقبل التعايش: إما العلم أو الإيمان. بينما يكشف التحليل العميق عن
تكامل جوهري بينهما، فالإيمان بوجود الله لا يناقض التفسيرات
العلمية، بل يؤسس لها ويمنحها إطاراً معرفياً متماسكاً.
الإيمان كمفسر لوجود التفسير
العلمي نفسه
أشار الفيلسوف ريتشارد سوينبيرن
إلى هذا الخلط المنهجي بقوله: «لاحظ أنني لا أفترض وجود (إله
الفراغات) إله فقط لتفسير الأشياء التي لم يفسرها العلم بعد، بل
أفترض إلها ليفسر لماذا يقدم العلم التفسير، فأنا لا أنكر أن العلم
يفسر، لكني أفترض إلها لتفسير لماذا يقدم العلم التفسير، إن نجاح
العلم في إثبات قدر التنظيم العميق للعالم الطبيعي يقدم الأساس
القوي للاعتقاد بوجود سبب أعمق لذلك التنظيم». أقوى براهين جون
لينكس، جمع أحمد حسن (۲۰۸).
هذا الطرح يتجاوز فكرة "إله
الفراغات" التقليدية، ليقدم منظوراً أكثر عمقاً: الإيمان بالله لا
يهدف لتفسير ما عجز العلم عن تفسيره مؤقتاً، بل يفسر أصل قابلية
الكون للتفسير العلمي نفسه.
الإيمان بالله كأساس للتفسير وليس
بديلاً عنه
يوضح جون لينكس هذه الرؤية بقوله:
«النقطة التي نريد هنا أن نلم بها أن الله ليس بديلًا عن العلم
كتفسير، فلا يجوز أن نفهمه فقط كإله للفراغات، بل على النقيض من ذلك
هو أساس جميع التفاسير، فإن وجوده هو الذي قدم إمكانية التفسير
نفسها - التفسير العلمي وغيره - من المهم التأكيد على هذا الأمر؛
لأن المؤلفين المؤثرين مثل ريتشارد دوكنز سيصرون على تصور الله
كبديل تفسيري للعلم وهذه فرية لا توجد في الفكر الديني بأي عمق كان
لذلك يحارب دوكنز أعداء وهميين». المرجع السابق ،(۲۰۸)، وانظر أيضًا
(۲۱۳)، وانظر مناقشة مطولة لهذه الفكرة في كتاب: العلم ووجود الله،
هل قتل العلم الإيمان بوجود الله؟ جون لنيكس (۷۱ - ۸۰، ۸۲ -
۸۵).
مستويات التفسير: العلم يجيب على
"كيف" والإيمان يجيب على "لماذا"
تشبه قصة الملاحدة باحثاً وجد نفسه
أمام آلة فائقة التعقيد، فانغمس في دراسة مكوناتها وتحليل آليات
عملها وتفاعلاتها الداخلية لسنوات طويلة، ثم خرج مستنتجاً بثقة أن
فهمه العميق لهذه الآلة ينفي حاجتها لمصمم أو خالق! لكن المنطق
السليم يدرك أن معرفة قوانين عمل الآلة لا تلغي ضرورة وجود صانع، بل
قد تعزز الإعجاب بعبقرية هذا الصانع ودقة صنعته.
السؤال عن آليات عمل الكون (وهو
مجال العلم) لا يلغي مشروعية التساؤل عن سبب وجوده ومصدر نظامه
المذهل (وهو مجال الإيمان والفلسفة). والخلط بين مستويات التفسير
المختلفة هذه يمثل انزلاقاً فكرياً خطيراً يفضي إلى استنتاجات
مضللة.
العلم والإيمان: شراكة في البحث عن
الحقيقة
الإيمان بوجود الله لا يتعارض مع
التفسيرات العلمية، بل يضعها في سياق أوسع وأعمق. فالعلم يكشف عن
القوانين التي تحكم الكون، والإيمان يتساءل عن مصدر هذه القوانين
وغايتها. العلم يخبرنا بكيفية تطور الحياة، والإيمان يتأمل في
معناها وقيمتها.
عند تجاوز ثنائية "العلم أو
الإيمان" المصطنعة، يمكننا رؤية علاقة تكاملية بينهما، حيث يثري كل
منهما الآخر. الإيمان بالله لا يعني التخلي عن البحث العلمي، بل على
العكس، قد يمنح الباحث دافعاً لاكتشاف روعة التصميم الكوني
وتناسقه.
وبدلاً من اختزال الله في دور "سد
الفراغات" المعرفية، يمكننا فهمه كأساس للنظام الكوني بأكمله، الذي
يجعل الفهم العلمي ممكناً أصلاً. وبهذا المنظور، كلما تعمق العلم في
فهم قوانين الكون، كلما قدم شهادة غير مباشرة على عظمة
خالقه.
الأكثر قراءة
31528
19246
14721
11414