4 ربيع الاول 1446 هـ   8 أيلول 2024 مـ 4:00 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | مقالات  |  هل الدين بحاجة إلى الشعائر والطقوس؟!
2024-07-09   187

هل الدين بحاجة إلى الشعائر والطقوس؟!

الشيخ مقداد الربيعي: الطقس والشعيرة الدينية، سواء في الأديان القديمة أو الحديثة، يشكل عنصرًا أساسيًا في تجربة الإنسان الروحية والدينية. إنه الرابط الذي يربط بين الإنسان والمقدس، وبين الفرد والجماعة، وبين الماضي والحاضر.

لكن وكالعادة، مع بداية مراسم العزاء، انطلقت أبواق المتغربين والعلمانيين، يحاولون المس منها بشغبهم الذي مللناه، بدعوى أنهم متنورون، وأحرار في تفكيرهم لا يتبعون القطيع. لكن هذه المرة أوجه خطابي لمن وقع تحت تأثيرهم، من دون أن ينطلق من نفس مبادئهم، وإنما كان الجهل بأهمية هذه الطقوس، أو عقلائيتها هما وراء اتخاذه موقفاً ضدها.

في مقال سابق بينّا فيه أن الغاية من العبادات كالصوم والصلاة وغيرها تحقيق ملكة التقوى في النفس والتي ستنعكس صلاحاً على سلوك العبد، ونبهنا أن علاقة الشعائر بالاقتداء بالأئمة عليهم السلام هي عين ذلك، فكلما بالغ الإنسان في إظهار الحزن عليهم تهيجت مشاعره وعواطفه أكثر حتى يحبهم، ومن أحب اتبع، لقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي..)، آل عمران: 31، والمسألة وجدانية، لكن قد يتقبل المنكرون هذه الأفكار التي توضح عقلائية وأهمية الشعائر والطقوس الدينية أكثر من شخصية تشاركهم حماسهم وأفكارهم، كالكاتب فراس السواح، حيث كتب في (دين الإنسان، ص 58 ـ 60)، كلاماً مهماً، ونحن سنأتي به على طوله لأهميته:

«يرسم المعتقد صوراً ذهنية واضحة وقوية التأثير للعوالم القدسية. ولكن الأفكار وحدها لا تصنع ديناً بالغاً ما بلغ من وضوحها واتساقها، بل قد تشكل في أفضل أحوال اتساقها فلسفة، رغم عنايتها الكلية بالمسألة الدينية. وأعود هنا للاستشهاد بمثال الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، التي اشتد عودها في المشرق العربي إبان القرن الثالث الميلادي. فهذه الفلسفة قد جعلت من الإلهيات بؤرة اهتمامها، وكانت أفكارها مهيأة لأن تكون أساساً مكيناً لديانة كبرى في ذلك الوقت، ولكنها لم تحقق هذه الخطوة رغم طموحها الضمني لتحقيقها، وذلك بسبب افتقارها إلى نظام طقسي، يضع الإنسان في علاقة مع العوالم القدسية التي صاغ المعتقد صورتها الذهنية، فبقيت هذه العوالم صوراً ذهنية باردة تعيش في عقول أتباع هذه الفلسفة لافي قلوبهم. إننا لا نتحول من الفلسفة إلى الدين (وأنا أفترض هنا أن كل تفكير متسق هو فلسفة)، إلا عندما يدفعنا المعتقد إلى سلوك وإلى فعل، فننتقل من التأمل إلى الحركة، ومن التفكير في العوالم المقدسة إلى اتخاذ مواقف عملية منها؛ فنتقرب منها أو نسترضيها أو نسخر قواها لمصلحتنا أو نكف غضبها عنا...الخ. فإذا كان المعتقد حالة ذهنية، فإن الطقس حالة فعل من شأنها إحداث رابطة. وإذا كان المعتقد مجموعة من الأفكار المتعلقة بعالم المقدسات، فإن الطقس مجموعة من الأفعال المتعلقة بأسلوب التعامل مع ذلك العالم أنه اقتحام على المقدس وفتح قنوات اتصال دائمة معه. وبشكل عام يمكن القول بأن أية صورة ذهنية لا تخرج من عالم الفكر إلى عالم الفعل، هي صورة معرضة للتحجر أو التلاشي والزوال. وربما لهذا السبب يتم تذكير الجنود في ثكناتهم يومياً بفكرة الوطن من خلال ممارسة يومية هي أقرب إلى الطقس الديني بشكلها ومضمونها. إن كل من مارس أو شاهد في القطعات العسكرية الإجراء المتعلق بتحية العلم الصباحية والمسائية، حيث يرفع العلم بحضور جميع أفراد القطعة صباحاً، وينزل مساء على صوت البوق، يدرك المعاني الكبيرة التي تنمو في النفوس من جراء القيام بهذا الطقس الدنيوي اليومي. ولعلنا واجدون الشيء نفسه في موقف المجتمع من فكرة الشهادة وإجلال الشهداء؛ فنحن مهما تحدثنا عن مكانة الشهداء في قلوبنا وتقديرنا لهم، لا نستطيع أن نفي ذلك حقه كما يفيه طقس وضع أكاليل الزهور على ضريح الجندي المجهول في مناسبات معينة. وأكثر من ذلك، فإن مفهوم الوطن القومي وصورته في عقول المواطنين، لا ترسخه الأفكار قدر ما ترسخه الطقوس . فنحن نستطيع أن نتحدث في كتب التعليم وعبر وسائل الإعلام عن فكرة الوطن ومفهوم المواطنية، ولكن احتفالاً قومياً واحداً يلتقي فيه الناس في الشوارع فيهتفون ويزغردون ويرقصون بمصاحبة الأناشيد القومية ويلوحون بالأعلام والشعارات، من شأنه تثبيت فكرة الوطن القومي وإضرام نار الانتماء إليه أكثر من كل الكتب والتعاليم. ولقد أدرك المشرفون على وسائل الإعلام في الأنظمة القومية الفاشية هذا الميل النفسي بكل دهاء. ففي ألمانيا النازية، عمد دهاقنة الإعلام إلى تصميم عدد متنوع من الطقوس لفئات الشبيبة النازية؛ فمن الألبسة والشارات المميزة لكل فصيل، ورفع اليد بالتحية المعروفة، إلى الأناشيد الحماسية تنشد (ألمانيا فوق الجميع) إلى موسيقى فاغنر تعزف في المناسبات وقد ألبست ثوباً قومياً عصرياً، إلى احتفالات المشاعل الليلية وما إليها. وتمت الإفادة من هذه المظاهر والاحتفالات الجمعية إلى درجة يمكن القول معها بأن الإيديولوجية النازية لم تنتشر عن طريق التبشير النظري الساذج، قدر انتشارها عبر التصميم المتقن لطقوس قومية لها صفة الهوس الديني.

استناداً إلى ما تقدم يمكن القول بأن الطقس ليس فقط نظاماً من الإيماءات التي تترجم إلى الخارج ما نشعر به من إيمان داخلي، بل هو أيضاً مجموعة الأسباب والوسائل التي تعيد خلق الإيمان بشكل دوري. ذلك أن الطقس والمعتقد يتبادلان الاعتماد على بعضهما بعضاً. فرغم أن الطقس يأتي كناتج لمعتقد معين فيعمل على خدمته، إلا أن الطقس نفسه ما يلبث حتى يعود إلى التأثير على المعتقد فيزيد من قوته وتماسكه بما له من طابع جمعي يعمل على تغيير الحالة الذهنية والنفسية للأفراد. وهذا الطابع هو الذي يجدد حماس الأفراد ويعطيهم الإحساس بوحدة إيمانهم ومعتقدهم. فالطقس، رغم قيامه على مجموعة من الإجراءات المرتبة والمنسقة مسبقاً، والتي تم القيام بها مراراً وتكراراً، إلا أنه يبدو جديداً كلما أكدت الجماعة على الأداء المشترك له. لهذه الأسباب يظهر الطقس للمراقب باعتباره أكثر عناصر الظاهرة الدينية بروزاً، ويقدم نفسه كأول معيار نفرق بواسطته الظاهرة الدينية عن غيرها من الظواهر، لأن الدين لا يبدو للوهلة الأولى نظاماً من الأفكار، بل نظاماً من الأفعال والسلوكيات والمؤمن ليس إنساناً قد أضاف إلى معارفه مجموعة من الأفكار الجديدة، بل هو إنسان يسلك ويعمل بتوجيه من هذه الأفكار».

في الختام، يمكن القول إن الطقوس الدينية تلعب دورًا حيويًا في حياة المؤمنين والمجتمعات الدينية. من خلال تعزيز الهوية الدينية، تنظيم الحياة الاجتماعية، توفير إطار للتفاعل مع المقدس، الحفاظ على الاستمرارية الثقافية، وتمكين التجربة الروحية، تظل الطقوس عنصرًا أساسيًا في فهم وتجربة الدين. إن فهم الطقوس الدينية وتقديرها يسهم في فهم أعمق للدين ودوره في حياة الإنسان، ويعزز من قدرة الأفراد على التواصل مع جوانب أعمق من ذواتهم ومن العالم المحيط بهم.

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م