| مقالات | الإلحاد في المجتمعات الإسلامية: عوامل النشوء وأوجه التمايز مع الغرب
الإلحاد في المجتمعات الإسلامية: عوامل النشوء وأوجه التمايز مع الغرب
الإلحاد في المجتمعات الإسلامية: عوامل النشوء وأوجه التمايز مع الغرب
الكاتب: الشيخ مقداد الربيعي
ظاهرة الإلحاد لم تقتصر على البلدان الغربية التي نشأت فيها، بل امتدت إلى مختلف أرجاء العالم، ولم يكن العالم الإسلامي في منأى عن تأثيراتها. فقد تأثرت عقول العديد من المثقفين بتلك الأفكار، مما دفع بعضهم إلى تبني الأسس الفكرية التي قامت عليها، نتيجة تحقق الظروف ذاتها التي ساهمت في ظهورها في أوروبا.
هذا يستدعي وقفة جادة لتحليل أبرز المرتكزات العلمية والفلسفية التي يقوم عليها الإلحاد الغربي، بالإضافة إلى دراسة الأسباب التي ساهمت في نشأته، سواء في موطنه الأصلي أو في بلداننا. ويتمثل الهدف في سلسلة مقالات لا تقتصر على وصف ظاهرة الإلحاد وتفسير مظاهرها أو الاكتفاء بالتحذير العام، بل تسعى إلى تقديم نقد منهجي لأهم أصوله وأركانه، مع تفنيد ما يُوجَّه من اتهامات للأديان عامة وللإسلام بشكل خاص.
نظرًا لأن الإلحاد يُعَد ظاهرة اجتماعية وإنسانية، فإن تفسيرها ليس بالأمر الهيّن. ذلك أن الظواهر الاجتماعية غالبًا ما تكون نتاجًا لتداخل عدة أسباب يصعب حصرها أو تحديد مدى تأثير كل منها. وكلما ازدادت الظاهرة تعقيدًا، تعاظمت أسبابها وتداخلت. ولهذا، يصعب الإحاطة بجميع أبعادها أو قياس نسبة تأثير كل عامل. في هذا السياق، يُشار إلى وصف الظواهر الإنسانية في كتاب أسس الفلسفة لتوفيق الطويل (ص. 71-74)، حيث يشير إلى الطابع المركب والمتداخل لهذه الظواهر.
ومع ذلك، فإن الوصول إلى أهم الأسباب المؤدية لظهور هذه الظاهرة يظل ممكنًا من خلال البحث المتأني والتحليل الموضوعي المتجرد. ورغم كثرة الكتابات التي تناولت أسباب هذه الظاهرة، يُعَد المؤرخ الأمريكي "ول ديورانت"، صاحب موسوعة قصة الحضارة، من أبرز من تناولها. فقد تميز طرحه بالغنى والتنوع، مما يجعله مصدرًا جديرًا بالاقتباس والدراسة، وسنسلط الضوء على أفكاره نظراً لأهميتها وفائدتها الكبيرة.
فإنه بعد أن تعرض لظاهرة نقد الكنيسة والثورة عليها، قال: «وكانت آلاف العوامل والمؤثرات الكهنوتية والفكرية والعاطفية والعاطفية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية، تتجمع بعد قرون من التعويق والاضطهاد، في دوامة تقذف بأوربا في أعظم فورة شهدتها منذ غزو البرابرة لروما. ثم أن إضعاف البابوية بالنفي في أفنيون، والانقسام في صفوف البابوية وانهيار الأنظمة في الأديرة، وترهب رجال الدين، والترف الذي يرفل به البطاركة، وفساد مجالس القضاء الرومانية، ووجوه النشاط المتسم بالأقبال على الدنيا للبابوات، وأخلاقيات الكسندر السادس، وحروب يوليوس الثاني، والمرح المستهتر الذي عرف به ليو العاشر، والتجارة في المخلفات المقدسة، وبيع صكوك الغفران، وانتصار الإسلام على العالم المسيحي في الحروب الصليبية الى جانب التركية، وزيادة الاتصال بالعقائد غير المسيحية، وتدفق العلم العربي والفلسفة العربية، وتدهور مكانة الفلسفة الكلامية في ظهور فلسفة سكوتس اللاعقلاني، وشك أوكهام، وفشل حركة التوفيق في الإصلاح، والكشف عن الحضارة الوثنية القديمة، واكتشاف أمريكا، واختراع الطباعة، وانتشار القراءة والكتابة والتعليم، وترجمة الإنجيل وقراءته، والإدراك الجديد للتناقض بين فقر الرسل وبساطتهم وبين ثراء الكنيسة الفاحش، والثراء المتزايد لألمانيا وانجلترا واستقلالهما الاقتصادي، ونمو طبقة وسطى ترفض التسليم بقيود رجال الدين ومزاعمهم، والاحتجاج على تدفق الأموال الى روما، وتحويل القانون والحكم الى الأغراض الدنيوية، وفتوة القومية، وتقوية الملكيات، والتأثير القومي للغات والآداب الشعبية، وتفاعل الميراث الفكري الذي خلفه الولدانيون وويكليف وهس، والمطالبة الصوفية بالتخفف من الطقوسية في سبيل ديانة تلتحم بالشخصية والروحية، وتتسم بالاتصال المباشر بالإنسان...
إن هذه كلها، كانت تتحد في سيل عارم، سوف يحطم عرف القرون الوسطى الذي كان أدنى الى القشرة، وسوف يحل جميع المعايير والروابط، ويمزق أوربا الى أمم ومذاهب، وسوف يكتسح أمامه أكثر فأكثر دعائم المعتقدات المأثورة، وما تقدمه من عزاء، ولعلها تؤذن ببداية النهاية لسلطان المسيحية على الحياة العقلية للرجل الأوربي. قصة الحضارة، ج23، ص283 ـ 284.
هذه الأسباب وغيرها التي لم يذكرها متفاوتة فيما بينها بالتأثير، ويمكن أن تتداخل وإرجاعها الى أسباب أربعة:
الأول: لا عقلانية المسيحية، وتقاطعها مع كثير من مخرجات العلم والعقل.
الثاني: فساد الكنيسة.
الثالث: تطور الوعي الأوربي.
الرابع: إخفاق الإصلاح الديني.
فهم الأسباب والدوافع التي أدت إلى ظهور الإلحاد في أوروبا يُعد أمرًا بالغ الأهمية لاعتبارين رئيسيين. فمن جهة، يسهم هذا الفهم في تفسير نشأته وتطوره في السياق الأوروبي، ومن جهة أخرى، يسلط الضوء على الخلل المنهجي الكبير الذي وقع فيه بعض المفكرين العرب العلمانيين المعاصرين. فقد عمد هؤلاء إلى مقارنة غير دقيقة بين أوضاع العالم الإسلامي وأوروبا قبل الثورة على الدين، وخلصوا إلى أنه لا فرق بين الحالتين. وبناءً على ذلك، برروا إمكانية ظهور الإلحاد في العالم الإسلامي نتيجة توافر الأسباب ذاتها.
غير أن التحليل الموضوعي يظهر بوضوح افتقار العالم العربي والإسلامي للعديد من الظروف والعوامل التي كانت وراء ظهور الإلحاد في أوروبا، مما يجعل هذه المقارنات غير دقيقة، بل ومضللة في كثير من الأحيان.
فقد ظهر الإلحاد في الغرب كنتيجة مباشرة للتغيرات الكبرى التي شهدتها أوروبا خلال عصر النهضة والتنوير. فالثورة العلمية التي أطاحت بالتفسيرات الكنسية التقليدية، والتوتر المستمر بين الكنيسة والمؤسسات العلمية، إضافة إلى استبداد الكنيسة واستغلالها للسلطة السياسية والاقتصادية، أدت إلى حالة من الرفض للسلطة الدينية. هذا الرفض أفضى إلى نشوء الإلحاد كحركة فكرية وفلسفية تعتمد على إنكار الغيب والبحث عن تفسيرات مادية بحتة للوجود.
علاوة على ذلك، ساهمت الحروب الدينية والصراعات الطائفية في تعزيز النزعة الإلحادية، إذ سئم الأوروبيون من دور الدين في إذكاء الانقسامات. هذه العوامل ولّدت حالة من الشك في المؤسسة الدينية، بل وفي الدين ذاته، ما أدى إلى ظهور تيارات فكرية تنادي بالإلحاد أو اللاأدرية.
في المقابل، فإن الإلحاد في العالم العربي والإسلامي لم ينشأ نتيجة صراع مباشر مع الدين نفسه، وإنما غالبًا كرد فعل على مجموعة من العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية، ويمكن إجمالها بالأمور التالية:
أولاً: الأزمات السياسية والاجتماعية: تعاني العديد من الدول العربية والإسلامية من أنظمة سياسية استبدادية تُسوّغ أحيانًا سياساتها باستخدام الخطاب الديني، مما أدى إلى فقدان الثقة لدى بعض الشباب في الدين كمصدر للتوجيه الأخلاقي والاجتماعي. هذه العلاقة السلبية بين السلطة والدين دفعت البعض إلى رفض الدين ككل.
ثانياً: التطور التكنولوجي والانفتاح الإعلامي: مع انتشار وسائل الإعلام الرقمية والانفتاح على الأفكار الغربية عبر الإنترنت، تعرض الشباب العربي لمفاهيم وأفكار لم تكن متاحة سابقًا. هذا الانفتاح أتاح مجالًا للاطلاع على التيارات الإلحادية الغربية، ما شجع البعض على تبني هذه الأفكار في غياب ردود علمية ودينية مقنعة.
ثالثاً: الأزمات الفكرية والهوية: يعيش العديد من الشباب العربي حالة من الاغتراب الفكري بسبب ضعف المؤسسات التعليمية والدينية في تقديم رؤية شاملة تجمع بين العقل والنقل. هذا الضعف ترك فراغًا فكريًا ملأته الأفكار الإلحادية التي تقدم نفسها كبديل عقلاني.
رابعاً: ردود الفعل على الخطاب الديني التقليدي: الخطاب الديني التقليدي في كثير من الأحيان لا يستجيب لتحديات العصر، مما يجعل الشباب ينظر إليه كخطاب بعيد عن الواقع وغير قادر على تقديم حلول حقيقية لقضاياهم.
فعلى عكس الإلحاد الغربي الذي ظهر نتيجة صراع فكري وعلمي مع الكنيسة، فإن الإلحاد في العالم العربي والإسلامي ينبع أساسًا من مشكلات اجتماعية وسياسية وفكرية. الدين الإسلامي لم يكن يومًا مؤسسة سلطوية كما كانت الكنيسة في أوروبا، بل هو دين يتسم بالمرونة والشمول. غير أن القصور في تقديم خطاب ديني معاصر ومؤثر، إضافة إلى استغلال الدين من قبل بعض الأنظمة، ساهم في انتشار هذه الظاهرة.
وفي الختام.. يختلف الإلحاد في العالم العربي والإسلامي عن نظيره في الغرب في أسبابه ودوافعه. فبينما نشأ الإلحاد الغربي نتيجة صراعات تاريخية بين العلم والدين، فإن الإلحاد العربي يعد انعكاسًا للأزمات السياسية والاجتماعية والفكرية التي تعانيها المنطقة. لمعالجة هذه الظاهرة، ينبغي العمل على تطوير خطاب ديني متزن وعقلاني، وإيجاد حلول حقيقية للأزمات التي تدفع الشباب نحو هذا الاتجاه.