25 ذو القعدة 1446 هـ   23 أيار 2025 مـ 9:40 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | حضارات وأمم |  الفتوحات الإسلامية بين الدوافع السياسية والشرعية الدينية
2025-05-23   14

الفتوحات الإسلامية بين الدوافع السياسية والشرعية الدينية


الشيخ معتصم السيد أحمد
حاول البعض تقديم الفتوحات الإسلامية على أنها ضرورة دينية لنشر الرسالة، ولا علاقة لها بأي دوافع سياسية، إلا أن الدافع الديني وحده لا يمتلك التبرير الأخلاقي لفرض الدين على الناس بالقوة، والدعوة في الأدب القرآني قائمة على ركيزة الحوار والجدال بالتي هي أحسن: ﴿ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن﴾. وليس فيها اعتداء على المناطق الآمنة والسيطرة على مقدراتها وثرواتها واسترقاق رجالها ونسائها.

فالمسار السياسي وحده يجب أن تقرأ به حركة الفتوحات الإسلامية، حتى وإن كانت المحصلة انتشار الإسلام في المناطق المفتوحة، وبهذه الحالة يمكننا التأكيد على أن الدافع السياسي وحده هو الذي يقف خلف تلك الحروب ولا علاقة للإسلام كمبدأ بكل ما جرى من تجاوزات، وحينها لا نكون مضطرين للدفاع عن تلك التجربة التاريخية بوصفها تجربة دينية، وإنما هو فعل سياسي تتحمل مسؤوليته السلطة السياسية الحاكمة في تلك الفترة.

فالتفسير المنطقي لما وقع من أحداث بعد وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يؤكد على وجود مطامع سياسية محركة لتلك الأحداث، فلم يكن هناك صراع بخلفيات عقدية أو صراع أفكار وأيديولوجيات، فمنذ الخلاف الذي حدث في السقيفة مروراً بما يسمى حروب الردة وانتهاءً بحركة الفتوحات، كانت الأهداف السياسية ومطامع السلطة والنفوذ هي الأكثر حضوراً وتأثيراً، ولا يمكن فهم ما حدث إلا ضمن التحليل السياسي الذي يفسر كل ما حدث على أنه صراع على السلطة، فكان مسيلمة نبي ربيعة، وطليحة نبي مضر، والعنسي نبي اليمن، يفهمون النبوة ملكاً وسلطاناً، وقد ازداد هذا التوجه بعد وفاة رسول الله (ص)، فنشطت حركات جديدة وانضمت قبائل أخرى وبدأت بالزحف نحو المدينة بعد أن ادعت قريش أن السلطة حكر لها ولا حق لغيرهم في وراثة محمد (ص) في سلطانه، وبذلك طمعت جميع قبائل العرب ورجعت إلى أحلافها القديمة، وأصبحت تشكل خطراً حقيقياً على الدولة الوليدة في المدينة، فما كان أمام السلطة الجديدة إلا أن تقف بكل صلابة أمام هذه الحركات، فوقع ما وقع من حروب عرفت بحروب الردة.

ومن الواضح أن الخيار العسكري لا يحقق الحل النهائي لأي مشكلة ذات جذور سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية قبلية، والحرب لا يمكنها القضاء على المطامع المتأصلة في النفس الإنسانية، فلو هزمت هذه القبيلة اليوم لا يمنع أبداً أن تعيد ترتيب نفسها والتحرك من جديد، فالناس لا تتحول إلى ملائكة بين ليلة وضحاها، ولا يمكن الاعتماد على سياسة الردع العسكري دائماً، فالجيوش الإسلامية ليست جيوشاً نظامية لها معسكرات ونقاط ارتكاز موزعة على مساحة الجزيرة العربية، وبالتالي يصعب المراقبة الدائمة لتحركات هذه القبائل الطامعة في السلطة والثروة، وبهذا الشكل لن تهدأ الجزيرة العربية ما لم يفتح أمامها مساحات جديدة تتجاوز حدودها الجغرافية، وآفاق أخرى تتجاوز الصراع التقليدي القائم فيها، وأفضل خيار هو تشجيع السلطة الجديدة على الغزو والفتوحات لأراضٍ جديدة خارجة عن حدود الجزيرة العربية، وبعيداً عن شرعية هذا الخيار وعدمها، إلا أنه من الناحية السياسية يمثل خياراً استراتيجياً يعمل على توحيد هذه القبائل على أهداف جديدة، كما يعمل على استغلال الطاقات القتالية للعرب وتوجيهها لتحقيق مكاسب جديدة غير معهودة لديهم، مضافاً إلى أن ذلك يوسع سلطانهم ويكسبهم مصادر دخل وثروات جديدة، وكل هذه المكاسب السياسية كما هو واضح يمكن التبرير لها بشعارات دينية.

ومن الواضح أن هذه الزاوية السياسية لم تكن غائبة عن الأذهان في تلك الفترة التاريخية، فمثلاً نرى أن عبد الله بن عامر يقترح على عثمان بن عفان لإطفاء نار الثورة التي قامت ضده قائلاً: «رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك وإن تجمرهم في المغازي حتى يذلوا لك فلا يكون همّة أحدهم إلا نفسه وما هو فيه من دبرة دابته وقمل فروه...». (تاريخ الطبري ج2 ص 643).

وجاء في فتوح البلدان للبلاذري: «قالوا: لما فرغ أبو بكر من أمر أهل الردة رأى توجيه الجيوش إلى الشام، فكتب إلى أهل مكة والطائف واليمن وجميع العرب بنجد والحجاز يستنفرهم للجهاد ويرغبهم فيه وفي غنائم الروم، فسارع الناس إليه من بين محتسب وطامع وأتوا المدينة من كل أوب، فعقد ثلاثة ألوية لثلاثة رجال...». (البلاذري فتوح البلدان: ج1 ص 128).

وروى الطبري: «إن خالد بن الوليد وقف يخاطب جموع القبائل قبل فتح العراق قائلاً: ألا ترون إلى الطعام كرفغ التراب، وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عز وجل ولم يكن إلا المعاش لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به ونولي الجوع والقلال من تولاه مما أثاقل عما أنتم فيه». (تاريخ الطبري: ج 2 : ص 255).

كل ذلك يدل على أن الفتوحات جاءت من أجل تدارك وضع سياسي متأزم، فالبدايات الأولى لفتح العراق بدأت بانتهاء حروب الردة، فقد وجد المسلمون أنفسهم على حدود هذا البلد، حيث طارد المثنى بن حارثة الشيباني فلول المرتدين حتى دخل جنوبي العراق، فاستأذن أبا بكر في غزوه، وطلب منه أن يؤمره على قومه ليقاتل بهم الفرس، فكان له ما أراد.

فكتب إلى خالد بن الوليد، وكان آنذاك في اليمامة، يأمره بالتوجه إلى العراق لمحاربة الفرس على أن يبدأ بالأبلة، كما كتب إلى عياض بن غنم وكان بالفراض -بين البصرة واليمامة- يأمره بغزو العراق من أعلاه، على أن يبدأ بالمصيخ حتى يلقى خالداً، على أن تكون القيادة لمن يصل إلى الحيرة أولاً.

وهكذا توالت الفتوحات في عهد الخلفاء إلى أن امتدت الدولة الإسلامية من شبه الجزيرة العربية إلى الشام فالقوقاز شمالاً، ومن مصر إلى تونس غرباً، ومن الهضبة الإيرانية إلى آسيا الوسطى شرقاً، وبهذا تكون الدولة قد استوعبت كافة أراضي الإمبراطورية الفارسية الساسانية وحوالي ثلثي أراضي الإمبراطورية البيزنطية.

وعليه كل ما جرى من استرقاق واستعباد، وكل ما حدث من مجون وفجور بالجواري، وكل ما وقع من عذابات وآهات، ما كان ليحدث لو انتشر الإسلام في تلك المناطق بالحكمة لا بالسيف، وبالحوار لا بالقتل والتشريد، وبمد يد العون لا بأخذ الجزية وامتلاك خيرات الآخرين، وكل الثروات الضخمة التي تربّع عليها ملوك المسلمين وخلفاؤهم هي أموال تلك الشعوب المستضعفة، وقد بدأت تتضخم هذه الثروات في أيدي المسلمين وتكوّنت طبقات أرستقراطية من قادة الحروب وأمراء القتال، حتى إن الرعيل الأول من الصحابة تأثر بذلك وأصبح منهم أولي نفوذ وثروة.

والناظر للوضع الاقتصادي للجزيرة العربية يعرف شظف العيش وصعوبة الحياة، واعتماد القبائل على الرعي والغزو وحماية القوافل التجارية الخاصة بالأثرياء منهم، ثم إذا نظرنا إلى حجم الثراء الذي حدث بعد الفتوحات الإسلامية لصدمنا حجم التحول الذي حدث، الأمر الذي يستوجب علينا أن لا نقيّم ما حدث بشكل ساذج يعتقد بأن الفاتحين كانوا ملائكة، بل الغالب منهم قد اندفع لهذه الفتوحات من أجل تحصيل مكاسب مادية، وخاصة أن الحصول عليها كان يتم بسهولة في ظل الانهيار المتسارع للإمبراطورية الفارسية والرومانية، فدخلوا بلاداً ذات حضارة عريقة ومدخرات واسعة وسهول ومزارع وغلّات وخيول وماشية بأعداد هائلة، غير الكنوز الضخمة التي كانت تحتفظ بها تلك الإمبراطوريات، والأسواق والقصور وما فيها من مجوهرات ومقتنيات ثمينة.

يقول حبيب بن صهبان: «لما دخلنا المدائن فأتينا على قباب تركية مملوءة سلالاً مُختمّةً بالرّصاص، فما حسبناها إلا طعاماً، فإذا هي آنية الذهب والفضة، وكان عدد الدراهم الموجودة في قصر كسرى ثلاثة آلاف مليون درهم». (تاريخ الطبري ج4 ص 17).

وعن عبيد الله بن محفز، عن أبيه، قال: «وإني لفي أوائل الجمهور حين عبروا دجلة، ودخلوا المدائن، ولقد أصبت بها تمثالاً لو قُسّم في بكر بن وائل لسدّ منهم مسدّاً، عليه جوهر». (تاريخ الطبري ج4 ص 26). 

ولو حاولنا التفصيل في المكاسب السياسية والاقتصادية التي حققتها السلطة السياسية مما جاء في كتب التاريخ لتوسّع الأمر بنا كثيراً، وعليه فإن الفتوحات الإسلامية وإن أدّت إلى دخول كل هذه البلدان في الإسلام إلا أنها لا تعبّر عن كونها خياراً إسلامياً، بل حتى لو كانت نيات الخلفاء خالصة للدعوة في سبيل الله إلا أن صلاح النية لا يصحح الأخطاء والتجاوزات التي رافقت هذه الفتوحات، ومن هنا نحن ندين عمل الجماعات الجهادية التي تجيز لنفسها القتل والتهجير والتفجير بحجة أن نيتها سليمة وهي تحكيم شرع الله، وبما أن كل ذلك مدان وغير مبرر حتى وإن سلمت نوايا تلك الجماعات، كذلك لابد أن يدان الغزو الإسلامي الأول بوصفه غزواً وسبياً ومصادرة لأملاك الآخرين، وليس في ذلك إدانة للعمل الدعوي ونشر الإسلام بما هو دعوة، لعدم وجود أي رابط حقيقي بينهما، فإذا فككنا بين الفتوحات وبين نشر الإسلام، ووضعنا العمل الدعوي في إطاره الديني الشرعي، فإن الإطار الذي يمكن أن تتموضع فيه تلك الحروب هو إطار آخر لا علاقة له بالإسلام.

ختاماً، يمكن القول إن الفتوحات الإسلامية، رغم ما حققته من انتشار للإسلام وتوسع جغرافي، لم تكن مجرد أداة دينية لنشر الرسالة، بل كانت أيضاً جزءاً من صراع سياسي طُبعت عليه أيديولوجيات السلطة والنفوذ. فالتفسير السليم لتلك الأحداث يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الدوافع السياسية التي أملتها الظروف الاجتماعية والاقتصادية في ذلك الوقت. وعليه، لا يمكن تبرير التعديات التي رافقت هذه الفتوحات باسم الدين، بل يجب أن نفصل بين عمل الدعوة الإسلامية السلمي وبين الحروب التي فرضت لتحقيق مصالح سياسية.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م