

| ديانات | تحريف العقيدة المسيحية: رؤى من مؤرخين وباحثين غربيين

تحريف العقيدة المسيحية: رؤى من مؤرخين وباحثين غربيين
تحريف العقيدة المسيحية: رؤى من مؤرخين وباحثين غربيين
الكاتب الشيخ مقداد الربيعي
لقد كان لجهود بولس الرسول في نشر المسيحية بين الوثنيين ثمن باهظ انعكس بوضوح على مسارها، حيث تعرضت منذ بداياتها للتحريف والتغيير، مما طال كتابها المقدس وتعاليمها الدينية. ومع مرور الزمن، دخلت المسيحية قرنها الرابع وقد امتزجت بعقائد وثنية وأفكار فلسفية، مع ما تبقى من الوحي الإلهي الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام. ولم تقتصر هذه التحريفات على القضايا الثانوية أو الجزئية، بل امتدت لتطال جوهر عقائد المسيحية الأساسية وشعائرها الكبرى. فأصبح تحريف المسيحية وتأثرها بالعقائد الوثنية حقيقة واضحة لا يختلف عليها الباحثون، وقد أقر بذلك العديد من الدارسين المتخصصين في تاريخ الأديان والفكر الغربي.
من أبرز الشهادات التي تناولت العلاقة بين المسيحية والوثنية، ما جاء على لسان الأستاذ أندريه نايتون، المتخصص في تاريخ الأديان ومقارنتها، حيث قال:
«في دراستنا لتاريخ الأديان اليوم، لا يمكننا إنكار الروابط الوثيقة والأواصر المتينة بين المسيحية والوثنية. بل يجب علينا أن نوضح كيف تحدرت المسيحية من الوثنية، وأصبح لهما نسب مشترك وأصل واحد. هذا الأمر يُعد منطقيًا وطبيعيًا لدى مؤرخ الأديان. إن فهمنا الحقيقي للمسيحية لا يتحقق إلا من خلال دراسة جذورها الوثنية، فقد كان للوثنية دور بارز في تطوير الدين المسيحي. لقد تأثرت المسيحية بشكل كبير بالوثنية اليونانية والفارسية، وكذلك بالوثنية الشرقية عمومًا. ولن نبالغ إن قلنا إن الأسرار الدينية المعروفة في المسيحية مستوحاة من الأديان الوثنية القديمة». الأصول الوثنية للمسيحية، ص19-20.
الجزم بتحريف العقائد المسيحية هو ما أكده عالم الأديان الفرنسي شارل جنيبير في دراسته المفصَّلة عن تاريخ المسيحية وتطورها. فقد توصل جنيبير إلى أن المسيحية التي يعتنقها الناس اليوم ليست سوى تحريف لما جاء به المسيح عليه السلام، وأوضح التشابه الكبير بين العقائد المسيحية والوثنيات المعاصرة لنشأتها. كما أشار إلى مدى تأثر المسيحية بالديانات الوثنية، مسلطًا الضوء على العديد من العقائد التي استعارها الفكر المسيحي من تلك الديانات، ومبينًا المنابع الوثنية التي استقت منها المسيحية عناصر من عقائدها.
وقد قال جنيبير: «إذا تأملنا الكنيسة في مقتبل القرن الرابع، فإنه يتعذر علينا أن نجد صورة من صور مجتمع الكنيسة". وأضاف: "إذا كانت المسيحية قد انتصرت في القرن الثالث على سائر ألوان التأليف الديني الوثني، فذلك لأنها هي الأخرى قد تطورت إلى تأليف ديني يجمع بين مختلف العقائد الخصبة والشعائر الجوهرية النابعة من العاطفة الدينية الوثنية». المسيحية: نشأتها وتطورها، ص121.
كما خلص جنيبير إلى أنه «لا توجد أي رابطة بين المسيحية في القرون الوسطى وبين ما جاء به المسيح عليه السلام؛ لأن الانحراف قد أبعدها عن جذورها الأصلية». وأكد أن المسيحية لم تنجح في تطويع المجتمعات الوثنية لتنسجم مع تعاليمها، بل هي التي انصهرت وتكيفت وفق نمط المجتمعات الوثنية. المسيحية: نشأتها وتطورها، ص191-192.
في عام 1977م، اجتمع سبعة من كبار علماء اللاهوت وأساتذة الجامعات البريطانية لإصدار كتاب يحمل عنوان "أسطورة تجسد الإله"، حيث تناولوا فيه بجرأة وعمق قضية التحريف في العقائد المسيحية. وقد خلصوا إلى أن المسيحية الحالية قد طرأ عليها تغييرات جذرية مست عقائدها الأساسية، وأنها استوعبت عناصر دخيلة مستمدة من المعتقدات الوثنية.
كشف الكتاب عن التأثيرات الوثنية التي تشكلت من خلالها العقائد المسيحية، وبيَّن بالدليل والتحليل أصول تلك العقائد الدخيلة. ولمن يرغب في التوسع، يمكن الرجوع إلى النص الكامل لـ "أسطورة تجسد المسيح"، أو إلى ملخص الكتاب المقدم في "دراسات معاصرة في العهد الجديد والعقائد النصرانية" للدكتور محمد البار (ص304-383).
وعند التأمل في آراء المؤرخين المهتمين بتاريخ العقائد وتطورها، نجد اعترافًا صريحًا بوقوع الانحراف في المسيحية. ومن أبرز هؤلاء المؤرخ الأمريكي ول ديورانت، الذي يقول في مؤلفه الشهير "قصة الحضارة": «إن المسيحية لم تقضِ على الوثنية، بل تبنتها؛ فقد عاد العقل اليوناني المتحضر إلى الحياة مجددًا من خلال لاهوت الكنيسة وطقوسها.» قصة الحضارة، ج12، ص77.
ويضيف ديورانت، في تعليقه العميق على هذا التأثير المتبادل، أن المسيحية يمكن اعتبارها: «آخر شيء عظيم ابتدعه العالم الوثني القديم!» قصة الحضارة، ج12، ص78.
هذا الإقرار الواضح يكشف عن مدى التشابك بين المسيحية والعقائد الوثنية التي سبقتها، ويؤكد أن المسيحية كما نعرفها اليوم ليست بمنأى عن التأثيرات التي استقتها من الحضارات الوثنية القديمة.
في استعراضه لتاريخ البشرية وتحليل تطوراتها، خصَّ المؤرخ الإنجليزي هـ. ج. ويلز جانبًا مهمًا من دراسته لانحراف العقائد المسيحية. فقد أفرد في كتابه "معالم تاريخ الإنسانية" فصلًا بعنوان "مبادئ أضيفت إلى تعاليم المسيح"، تناول فيه التغيرات التي طرأت على التعاليم الأصلية للمسيح عليه السلام. أوضح ويلز أن العصور الأولى للمسيحية شهدت محاولات للتوفيق بين عقائد المسيحية الناشئة ومعتقدات الأديان السائدة في ذلك الوقت، مما أدى إلى إدخال عناصر جديدة على العقيدة المسيحية، وقدم تفاصيل دقيقة حول هذه التأثيرات. معالم تاريخ الإنسانية، ج3، ص559-566.
وعندما تناول أول مجمع مسيحي (مجمع نيقية)، شدد ويلز على الاختلاف الجوهري بين المسيحية التي تطورت في مجمع نيقية وتعاليم يسوع الناصري، حيث قال: «من الضروري أن نلفت نظر القارئ إلى الفروق العميقة بين مسيحية نيقية التامة التطور، وتعاليم يسوع الناصري.» معالم تاريخ الإنسانية، ج3، ص572.
هذه الملاحظات تسلط الضوء على مدى الانحراف الذي أصاب التعاليم المسيحية عبر تاريخها، وتبين الجذور التاريخية لهذا التحول.
كذلك يشير أرنولد توينبي، المؤرخ البريطاني الكبير، إلى أن المسيحية لم تدمر الديانات الوثنية بقدر ما امتصتها واستوعبتها. وفي تحليله لتطور المسيحية، يصرح قائلاً: «إن المسيحية خرجت عن التوحيد اليهودي؛ بأنها ابتلعت وتمثلت الديانات المنافسة المقهورة.» تاريخ البشرية، ج1، ص361.
أما المؤرخ الأمريكي المعاصر كرين برينتن، فيرى أن المسيحية نشأت وتطورت داخل رحم الحضارة الوثنية. ويؤكد أن فهم المسيحية اليوم يتطلب الرجوع إلى السياق التاريخي الذي شهد نشأتها، حيث كانت جزءًا لا يتجزأ من العالم اليوناني الروماني. يقول: «لا يمكن فهم المسيحية إلا إذا فهمناها ضمن ظروف تلك الحقبة.» أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي، ص43.
من جهة أخرى، يوضح الفيلسوف والمؤرخ الإنجليزي برتراند رسل أن اللاهوت المسيحي استقى أفكاره وعقائده من الفلسفات اليونانية، وخصوصًا الأفلاطونية الجديدة. وبيَّن أن هذا التمازج بين الفكر المسيحي والفلسفة اليونانية أصبح عميقًا لدرجة أنهما «صارا وجهين لعملة واحدة، من الصعب الفصل بينهما.» تاريخ الفلسفة الغربية، ج1، ص418.
هذه الآراء جميعها تجمع على أن المسيحية في تطورها لم تكن بمنأى عن تأثيرات الحضارات الوثنية والفلسفات القديمة، مما يبرز تعقيد نشأتها التاريخية وعقائدها كما نعرفها اليوم.
المؤرخ ريتشارد تارناس يقدم تحليلاً مفصلاً للتداخل العميق بين الفكر المسيحي المبكر والثقافات الوثنية التي عاصرته، خصوصاً الثقافة اليونانية. وفي كتابه "آلام العقل الغربي"، يوضح أن المسيحية لم تقضِ على الفكر اليوناني بقدر ما امتصت الكثير من عناصره وتشربت بها. ويشير إلى أن الوحي المسيحي البدائي اتخذ أشكالًا ثقافية وفكرية متنوعة، مستوحاة من سياقات مختلفة مثل اليهودية، والإغريقية، والهيلينية، والغنوصية (العرفانية)، والأفلاطونية الجديدة، إلى جانب التأثيرات الرومانية والمشرقية. ويخلص إلى أن المسيحية نجحت في إذابة هذه العناصر المتباينة داخل بوتقة فكرية فريدة. آلام العقل الغربي، ص126-200.
وفي دراسته المستفيضة، يلفت تارناس إلى أن العديد من العناصر المحورية في حياة يسوع المسيح، والتي تعتبر مقدسة في العقيدة المسيحية، مثل قصة القيامة، والمعجزات المختلفة، واعترافه بحقيقة التثليث، ونيته في تأسيس دين جديد، تبقى غير قابلة للإثبات الحاسم إلا من خلال الأدلة التاريخية والنصية التي لا تخلو من التأويل. المرجع السابق، ص129.
بهذا الطرح، يبرز تارناس كيفية تداخل المسيحية المبكرة مع ثقافات متعددة، وكيفية تحولها عبر القرون إلى عقيدة تجمع بين التأثيرات المتنوعة في صيغة موحدة ومتطورة.
قضية تحريف الدين المسيحي أصبحت موضوعًا محوريًا لاهتمام العديد من الباحثين الذين انكبوا على دراستها وتحليلها من زوايا متعددة. فقد تناولوا أسباب هذا التحريف، والعوامل الداخلية والخارجية التي أسهمت في حدوثه، واستعرضوا تطوراته التاريخية ومعالمه وحدوده. كما بحثوا في مصادره ومآخذه، وحشدوا الأدلة والبراهين لإثبات وقوع هذا التحريف وبيان مدى تأثيره العميق.
ومن أبرز ما تناوله الباحثون في هذا السياق، التركيز على دور القديس بولس، الذي يعد شخصية محورية في الفكر المسيحي بعد المسيح عليه السلام. يُنظر إلى بولس باعتباره المسؤول الرئيس عن أكبر التحريفات التي أصابت الدين المسيحي. ويجمع كثير من الباحثين على أن جهوده وأفكاره كانت العامل الأساسي الذي أحدث هذا التغيير الجذري في العقيدة المسيحية.
وفي هذا الإطار، يقول المؤرخ هيم ماكبي في كتابه "بولس وتحريف المسيحية": «الحدث الكبير الذي شكل ولادة الدين المسيحي بشكله الجديد كان اعتناق بولس للمسيحية على طريق دمشق. هذا الحدث حوّل المسيحية من امتداد طبيعي للديانة اليهودية الأصلية إلى دين جديد مختلف تمامًا، يحمل لاهوتًا خاصًا وأساطير لا تمت بصلة إلى الأصل.» (ص35).
وقد امتلأت الدراسات والكتب الغربية بالتأكيد على أن بولس كان المصدر الأساسي للتحريف في العقيدة المسيحية، وأن جهوده كانت وراء إدخال أبرز التغييرات التي شكلت ملامح المسيحية كما نعرفها اليوم.