2022-07-14 1288
كيف نظر وعالج الإسلام ظاهرتي "التخنيث" و "المثليّة"
إن الكلام في مثل هذا الموضوع، لا
يمكن الإحاطة بكل جوانبه وأبعاده والنقاط المهمة فيه، وكيفية معالجة
ونظرة الإسلام التامة إليه، من خلال مقالة واحدة، بل الأمر يتطلب
وضع دراسة تكون قادرة على الإحاطة بكل تلك الأسباب والأبعاد
والنتائج النفسية والاجتماعية المتعلّقة بظاهرتين كبيرتين كالتخنيث
والمثلية، ولكن تماشيا مع قاعدة: "ما لاَ يُدْرَك كُلُّه لاَ
يُتْرَك كُلُّه"، حاولنا في هذا المقال التركيز على بيان بعض النقاط
المحدودة، عملا بالقاعدة السابقة.
فنحن بعد أن شاهدنا أن هناك من يعمل على تكريس الرذيلة والانحطاط الذي سوف يؤدي بطبعه إلى انحلال تلك العُرى الإجتماعية المنظّمة والمحافظة على بقاء العنصر البشري، وبعد أن حاولوا تسويق أكبر الظواهر الإجتماعيا انحطاطًا وتفسّخًا تحت مسمّى الحقوق الإنسانية، بعد كل هذا كان لا بد لنا من الوقوف لبيان موقف المنظومة الدينية الإسلامية اتجاه ظاهرة المثليّة الجنسية، وكذالك التفريق بينها وبين ظاهرة التخنيث التي تنتج من خلل في وظائف الجسد البشري، والتي نراه تستخدم في بعض الأحيان كغطاء لمن يريد تسويق ظاهرة المثلية وجعلها أمر واقع.
ومن هنا نقول أنّنا لو عدنا لدراسة المنطلقات والأدوات التي اعتمدت عليها المدرسة الإسلامية في بنائها لمنظوماتها المختلفة، وبالأخص في منظومتها التشريعية المتعلّقة مباشرة بسلوك الفرد البشري، وأيضا لو عدنا للتأمّل في مبتنيات ومنطلقات المدارس الفكرية الأخرى، وخاصة الغربية منها، سنلحظ وجود فارق بسببه كان لكلّ منهما وجهة ونتيجة، وبسببه كان للإسلام مواقف اتجاه الواقع أو السلوك البشري قريبة لتلك الفطرة التي جعلت عليها تركيبة الإنسان حين خلقه وتحقّق وجوده في مرتبة عالم الدنيا.
وبما أنّ مرادنا هو بيان وتوضيح موقف الدين الإسلامي اتجاه ظاهرتي التخنيث والمثليّة الجنسية، فنحن سوف نعمل ونكتفي ببيان موقف الإسلام من هاتين الظاهرتين، دون الدخول في رؤى المدارس الأخرى، ولكن قبل الدخول في بيان ذالك، لا بد لنا من تقرير أهم الفوارق الأساسية بين مصاديق الظاهرتين، وذلك من خلال تعريف كل واحدة منهما، وبيان حدودهما.
التفريق بين التخنيث والمثلية:
تقريب الخُنثى:
الخنثى أو التخنيث، هو عبارة عن "اجتماع علامة جنسية مادّية أو أكثر، في فرد من الجنس الآخر"، بمعنى أن تكون في الأنثى علامة أو أكثر من ذلك، من العلامات المادية الذّكوريّة، أو يكون في الذّكر علامة أو أكثر من ذلك، من العلامات الجنسيّة المادّية الأنثويّة، وبالتالي فمفردة «التخنيث» التي أقرّ بها الإسلام في منظومته التشريعيّة، تبعا لما هو حاصل في الواقع، هي مرتبطة بالبُعد المادي الفيزيولوجي البشري، وتأكيدنا على ربط مفردة «العلامة» بمفردة «المادّية»، لأنّ قيد المادّية هو الذي يُفَرِّق بين مفردتي «التخنيث» و «المثليّة»، كما سيتضح بعد تقريب المثلية.
تقريب المثليّة:
المثلي أو المثليّة، وكما ناراها تعرّف عند أصحابها أو المدافعين عنها بحيث نراهم اليوم يعملون على إقرارها في واقع بني الإنسان، كحقيقة واقعية يجب التعايش والإنسجام معها هي: «تحقّق ميل جنسي، أو عاطفي جنسي، من صاحبه اتجاه من يشترك معه في نفس الجنس»، كأنّ تنجذب أو تميل الأثنى عاطفيًّا أو جنسيًّا اتجاه أنثى أخرى، أو ينجذب ويميل الرّجل عاطفيًّا وجنسيًّا اتجاه رجل آخر، ونحن في التعريف ذكرنا عبارة «عاطفي جنسي» لأنّ بعض الذين انصابوا بهذا الإنحراف، قد ينجذبون لمن يماثلهم في الجنس، بقوّة العاطفة دون الجنس، وهي التي تختلف عن تلك العواطف التي تقوم بين الأب وابنه أو بين الأخ وأخوه أو بين الصديق وصديقه، فالعاطفة التي تتحقّق بين المثليين هي تلك العاطفة التي اعتدنا مشاهدتها في الواقع قائمة بين الزوج وزوجته، والتي تقود أو تُتَوَّج في آخر الأمر إلى تحقّق البُعد الجنسي بين الفردين.
وبعد وضوح تعريف أو تقريب الحالتين، يصبح من السهل التعرف على أهم الفوارق بينهما، ففي الأول نجد أنّ الحالة تتعلّق بالجانب الفيزيولوجي الجسدي للفرد، بينما نجد الحالة الثانية تتعلّق بالجانب النفسي الغرائزي، غير أنّ هذا الإختلاف بين الحاليتين في مرجع تعلّقهما، لا ينفي إمكانية أنّ تجتمعا في فرد واحد، كأنّ يكون الفرد مخنّثا ومثليًّا في نفس الوقت.
وعليه فبعد أن عرفنا الفارق الأساسي بين التخنيث والمثليّة، نعود لنقول:
في البداية نشير إلى أنّ الإسلام في بناء منظومته التشريعية كان نظره وملاحظته تنصب نحو الأكثرية، أو ما يمكن أن نعبر عنه بالسواد الأعظم، وعليه فهو يبني منظومته التشريعيّة القانونيّة على أساس أنّ النوع البشري يكون على جنسين، الأنثوي والذكري، وذالك توافقا مع مقتضيات الطبيعة الفطرية التي عليها السواد الأعظم من النّاس.
وللتفريق بين الجنسين، يعتمد الإسلام على جملة من العلامات والدلائل والأعراض الماديّة، منها ما لديه تأثير وظيفي عقلائي على سير الحياة التي يقتضيها نوع الجنس، ومنها ما ليس له تأثير وظيفي عقلائي، فاللّحية مثلا من العلامات الكاشفة والدّالة على الجنس الرجالي، غير أنّ تأثيرها عليه وظيفيا غير معتدٍّ به، فلو فقدها الرجل فلن تؤثّر وظيفيا على سير حياته التي يقتضيها الجنس الذكوري، وكذالك الحال مع المرأة فلو اكتسبتها فلن يؤثر ذالك على وظيفتها التي تقتضيها سير حياتها الأنثوية، نعم قد يكون عدم اكتساب الرجل للّحية أو اكتساب المرأة للّحية، له تأثيرات في سير حياتهما العامة، ولكن هذه التأثيرات في الواقع ضعيفة ويمكن تجاوزها، لوضوح كونها تعود لتلك الاعتبارت التي فرضها واقع التفكير البشري، وبالتالي فهي تأثيرات اعتبارية لا هي حقيقيّة واقعيّة.
بينما لو أتينا إلى بعض العلامات المؤثرة وظيفيًّا، كاكتساب الرّحم وما يتبعه من أعضاء، سنجد أنّ فقدان المرأة له سيؤثر تأثيرًا وظيفيا مباشراً على سير حياتها كأنثى، ويحكم بذالك العقلاء من بني الإنسان، ولو اكتسبه الرجل فسيكون الحال أعقد.
والأمر الثاني الجدير بالملاحظة هو أنّ الإسلام وبعد أن يؤسس منظومته على أساس أنّ النوع البشري يكون على صنفين - إناثًا وذكورًا - إلاّ أنّه لا يهمل تحقّق التداخل في العلامات والدّلائل الكاشفة على صنف النوع البشري، بل بعد إقراره بها، يعمل على علاجها بما يُسمى بـ «الإلحاق»، بمعنى أنّه يضع جملة من الضوابط المندرجة في طول بعضها، وعلى أساس هذه الضوابط يَحْكم بأنّ هذا الفرد الذي تداخلت فيه العلامات الماديّة، يُلحق بالإناث، وبالتالي تتم معاملته على كونه أنثى، أو يلحق بالذكور ويتم معاملته في المجتمع والتشريعات على كونه ذكرًا، ولمن يريد الإطلاع على تفاصيل ذالك فليراجع المنظومة الفقهية الإسلامية، في خصوص التعامل مع الخنثى في ما يتعلّق بالزواج، والميراث والصلاة .......إلخ.
فالإسلام وبعد أن حلّ مشكلة «التخنيث» من خلال إرجاع المخنّث لإحدى الجنسين، وبالتالي يكون له وعليه الحقوق والواجبات التي ثبتت للجنس الذي أُرجع له، وذالك مراعاة للفطرة التي فطرت عليها تركيبتة، خاصة أنّ هذه الحالة هي من الأمور القهرية، التي لا دخالة لصاحبها في تحقّقها، فهي تكوينية بحتة.
فهو بعد أن يقرّ ويحل مشكلة التخنيث، لكونها من الأمور الخارجة عن إرادة صاحبها، نجده يرفض الإقرار بحالة المثلية بكلا صنفيها، بل ويُصنّفها في خانة أشدّ الرذائل بشاعة، ويحكم بكونها من الانحرافات النفسيّة الشاذّة، ولذالك لو عدنا للمنظومة التشريعية الإسلامية سوف نجد أنّ المثلية إذا تحقّقت بين ما يصدق عليهما أنّهما ذكران، أُطلق على هذه الحالة مفردة «اللِّواط»، أمّا إن كانت حاصلة بين ما يصحّ نعتهم بالإناث، عندها يطلق على هذه الحالة مفردة «السِّحاق»، وكذالك جعلت المنظومة التشريعية الإسلامية مجموعة من العقوبات، التي تختلف باختلاف الحالة التي عليها فاعل هذه الرذائل، فإن كان الرجل أو المرأة خاضعين تحت عقد زواج تكون عقوبتهما أشدّ من الذين لم يتزوجوا، فمن يريد الإطلاع، فليراجع باب الحدود في المنظومة الفقهية الإسلامية.
والحقّ في المقام: هو أنّ المبدأ الأساسي الذي نشخّصه في سبب عدم إقرار الإسلام لحالة «المثليّة»، هو أنّ الشارع ولعلمه بإمكانية الإنسان على ضبط والتحكم في نفسه، بل إنّه تعالى لا يكلّف نفسًا إلاّ ما تقدر عليه ((وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا))(المؤمنون ـ 62)، أوجب على الفرد البشري من البداية تكليف لزوم ضبط النّفس والتحكم في ميولاتها، بحيث تتناسب مع الفطرة التي جُعلت عليها تركيبة الإنسان، وخاصة اتجاه تلك الميولات الشاذة التي تتعارض مع فطرة الإنسان، ولأجل تركيزه هذا التكليف، رفض الإعتراف أو مراعاة الميل المثلي الذي لا يختلف عاقلان في كونه ميلاً شاذًا ترفضه الطبيعة البشرية العاقلة، لوضوح أنّ التماهي معه يؤدي إلى ضرب أهم أساس ولَبَنَة تتشكّل منها بُنية المجتمع البشري، فالعلاقة الجنسية التي من خلالها تحافظ البشرية على وجودها هي من أبرز العناصر التي من خلالها تتأسّس الأسرة التي هي في نظر الإسلام اللَّبَنَة الأولى المشكّلة للمجتمع البشري، ومع حرف هذه العلاقة إلى ما يخالف الفطرة البشرية، نكون في هذه الحالة نعمل على تقويض عرى ولبَنَات المجتمع، التي ستؤدي ليس لحرف مسيرة الإنسان نحو الكمال فقط ، بل ستؤدي في آخر الأمر إلى التفكّك أو الاندثار.
فنحن لو عدنا للخطاب القرآني سنجد المولى تعالى الذي خلق وصوّر الإنسان، يخبرنا أنّه قد مكّن النّفس البشرية وأعطاها الإستعداد اللازم لتنحو نحو الفجور، الذي لا يتحقّق إلاّ من خلال اتباع الميولات والشهوات النّفسية الشاذّة، والمتعارضة مع الفطرة التي خُلقت عليها تركيبة الإنسان، التي تقتضي وتحتاج للسير نحو الكمال، في الوقت الذي مكّن أيضا النّفس ممّا يجعلها تَنْحُو نحو الطريق المقابل للفجور وهو طريق التقوى، الذي لا يتحقّق إلاّ من خلال ضبط وتربية النّفس البشرية على الفضيلة، وتنقيتها من الرذيلة، فقد قال تعالى ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8))(الشمس ـ 7ـ8).
بل ونجده تعالى يُقرّر ويَكشف بل ويُرْشِدنا بعد قَسمه بـ «الشّمس والقمر والنّهار واللّيل والسّماء والأرض والنّفس» إلى أنّ الفلاح والنجاح المطلقين للإنسان، سواء في الحياة الدّنيا أو الآخرة، متوقفٌ على تزكية وتطهير وتنقية وتنمية الفرد لنفسه التي بين جنبيه من الرذائل والشوائب، وكذلك تنميتها في ما يتناسب مع الفطرة البشرية السليمة، وأيضا يرشدنا ويكشف لنا أنّ الخيبة والخسارة المطلقتين في الدنيا والآخرة مرتبطتان بالدّس على النّفس، من خلال إخفاء عيوبها وميولاتها الشاذّة عن حقيقته، أو إخفاء مسيرها في طريق الفجور عن حقيقته لأجل تجنيبها اللّوم والمحاكمة التي عادة تنعقد في داخل الإنسان بعد ارتكابه للرذيلة، فقد قال تعالى في كتابه: ((قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا(10))(الشمس ـ 9ـ10).
وخلاصة كل ما سبق هو: أنّ الإسلام أقرّ بحالة «التخنيث» وأوجد لها الحلول التي تتناسب مع النُّظم الإجتماعية السامية من جهة، ومع الحقوق الإنسانية للمخنّث من جهة أخرى، لوضوح أنّ إيجاد وتحقّق هذه الحالة، ليس لصاحبها أي دور في ايجادها وتحقّقها فيه، بينما يرفض الإسلام بشكل قاطع تناسبا مع ما يرفضه عقل العقلاء، الاعتراف بحالة «المثلية الجنسيّة» لوضوح أن لصاحبها دور كبير في إيجادها وتحقّقها فيه، وذلك من خلال انسياقه نحو حالة يحكم عقلاء بني الإنسان، بكونها شاذّة ومفسدة للواقع البشري ومسيرته نحو الكمال، وكذالك لتركه ذاك التكليف المتعلّق بضبط وتربية النّفس وردعها عن الانسياق لمثل هذه الميولات، التي تظهر في الفرد نتيجة عدّة عوامل خارجية لا تكوينية، منها البيئة والظروف، ومنها التربية والنشأة، ومنها الانسياق وراء ميول أخرى بحيث تكون الميول المثلية نتيجة للانسياق الفرد وراء الإفراط في الميل الجنسي عموما ...إلخ.
وعليه، فليس رفض ظاهرة «المثلية» بكلا صنفيها، هو سلب لحقوق عدد شاذ من بني الإنسان، كما يريد البعض تسويقه، بل هو مطلب عقلائي للحفاظ على المصالح العليا والأساسية، المتعلّقة باستمرار وجود النوع البشري، وهو أيضًا تصدّي للحيلولة دون تشريع وتبرير لانحراف نفسي خطير، يحكم العقل والتشريع الإسلامي بلزوم ووجوب تصحيحه وعلاجه، من خلال عملية ضبط النفس وتربيتها، وادعاء بعض المثليين عدم مقدرتهم على السيطرة أو تغيير هذا الميل، شبيه تماما بالذي يدّعي عدم مقدرته على ترك إدمان المخدّرات أو الخمر، لإنها كلّها شهوات وميولات نفسية اتجاه أشياء لتلبية وتحقيق عنصر واحد يسمى اللّذة، ولا اختلاف جوهري بينها بل قد يختلفان في المنشأ والمتعلّق والشدّة والضعف فقط .
الواقع يخبرنا بكل وضوح أن الفرد البشري لديه القدرة ليس فقط على تغيير ميولاته النفسية، وتصوّراته الفكريّة، وحتى معتقداته الدينية، بل لديه القدرة على تغيير فطرته التي وجد عليها، وبالتالي فالعجز في تغيير الميولات لا يعود لكونها أمور تكوينية كما هو حال الخنثى ، بل لأسباب أخرى يمكن للفرد اكتسابها، كضعف الإرادة، وعدم الرغبة في التغيير نتيجة خلفية نفسية أو فكرية ثقافية...إلخ.
ونختم كلامنا، أن الميولات الجنسيّة الشاذّة، عديدة وليست مقتصرة على ميل الذكر نحو الذكر، أو الأنثى للأنثى، بل هناك ميولات أخرى منها: ميل الكبار نحو الأطفال الصغار، أو ميل الذكر نحو الأموات، كما نراه قد تحقّق عديد المرات في أمريكا، أو ميل الذكر أو الأنثى نحو ممارسة الجنس بالعنف الشديد، أو الميل نحو حتى الحيوانات، وغيرها الكثير الميولات.
فمن يريد تشريع وتبرير المثلية، لماذا يتغافل عن باقي الميولات الأخرى الكثيرة، بل ويُلْزم أصحابها بضرورة ضبط ميولاته والعمل على السيطرة عليها وعلاجها، ثمّ يغض النظر عن المثلية، فالملاك بينهم واحد، الأصل أيضا واحد، فكل هذه الميولات تخالف ما تقتضيه تلك الفطرة التي خلقت عليها تركيبة الإنسان؟!
حبيب مقدم
فنحن بعد أن شاهدنا أن هناك من يعمل على تكريس الرذيلة والانحطاط الذي سوف يؤدي بطبعه إلى انحلال تلك العُرى الإجتماعية المنظّمة والمحافظة على بقاء العنصر البشري، وبعد أن حاولوا تسويق أكبر الظواهر الإجتماعيا انحطاطًا وتفسّخًا تحت مسمّى الحقوق الإنسانية، بعد كل هذا كان لا بد لنا من الوقوف لبيان موقف المنظومة الدينية الإسلامية اتجاه ظاهرة المثليّة الجنسية، وكذالك التفريق بينها وبين ظاهرة التخنيث التي تنتج من خلل في وظائف الجسد البشري، والتي نراه تستخدم في بعض الأحيان كغطاء لمن يريد تسويق ظاهرة المثلية وجعلها أمر واقع.
ومن هنا نقول أنّنا لو عدنا لدراسة المنطلقات والأدوات التي اعتمدت عليها المدرسة الإسلامية في بنائها لمنظوماتها المختلفة، وبالأخص في منظومتها التشريعية المتعلّقة مباشرة بسلوك الفرد البشري، وأيضا لو عدنا للتأمّل في مبتنيات ومنطلقات المدارس الفكرية الأخرى، وخاصة الغربية منها، سنلحظ وجود فارق بسببه كان لكلّ منهما وجهة ونتيجة، وبسببه كان للإسلام مواقف اتجاه الواقع أو السلوك البشري قريبة لتلك الفطرة التي جعلت عليها تركيبة الإنسان حين خلقه وتحقّق وجوده في مرتبة عالم الدنيا.
وبما أنّ مرادنا هو بيان وتوضيح موقف الدين الإسلامي اتجاه ظاهرتي التخنيث والمثليّة الجنسية، فنحن سوف نعمل ونكتفي ببيان موقف الإسلام من هاتين الظاهرتين، دون الدخول في رؤى المدارس الأخرى، ولكن قبل الدخول في بيان ذالك، لا بد لنا من تقرير أهم الفوارق الأساسية بين مصاديق الظاهرتين، وذلك من خلال تعريف كل واحدة منهما، وبيان حدودهما.
التفريق بين التخنيث والمثلية:
تقريب الخُنثى:
الخنثى أو التخنيث، هو عبارة عن "اجتماع علامة جنسية مادّية أو أكثر، في فرد من الجنس الآخر"، بمعنى أن تكون في الأنثى علامة أو أكثر من ذلك، من العلامات المادية الذّكوريّة، أو يكون في الذّكر علامة أو أكثر من ذلك، من العلامات الجنسيّة المادّية الأنثويّة، وبالتالي فمفردة «التخنيث» التي أقرّ بها الإسلام في منظومته التشريعيّة، تبعا لما هو حاصل في الواقع، هي مرتبطة بالبُعد المادي الفيزيولوجي البشري، وتأكيدنا على ربط مفردة «العلامة» بمفردة «المادّية»، لأنّ قيد المادّية هو الذي يُفَرِّق بين مفردتي «التخنيث» و «المثليّة»، كما سيتضح بعد تقريب المثلية.
تقريب المثليّة:
المثلي أو المثليّة، وكما ناراها تعرّف عند أصحابها أو المدافعين عنها بحيث نراهم اليوم يعملون على إقرارها في واقع بني الإنسان، كحقيقة واقعية يجب التعايش والإنسجام معها هي: «تحقّق ميل جنسي، أو عاطفي جنسي، من صاحبه اتجاه من يشترك معه في نفس الجنس»، كأنّ تنجذب أو تميل الأثنى عاطفيًّا أو جنسيًّا اتجاه أنثى أخرى، أو ينجذب ويميل الرّجل عاطفيًّا وجنسيًّا اتجاه رجل آخر، ونحن في التعريف ذكرنا عبارة «عاطفي جنسي» لأنّ بعض الذين انصابوا بهذا الإنحراف، قد ينجذبون لمن يماثلهم في الجنس، بقوّة العاطفة دون الجنس، وهي التي تختلف عن تلك العواطف التي تقوم بين الأب وابنه أو بين الأخ وأخوه أو بين الصديق وصديقه، فالعاطفة التي تتحقّق بين المثليين هي تلك العاطفة التي اعتدنا مشاهدتها في الواقع قائمة بين الزوج وزوجته، والتي تقود أو تُتَوَّج في آخر الأمر إلى تحقّق البُعد الجنسي بين الفردين.
وبعد وضوح تعريف أو تقريب الحالتين، يصبح من السهل التعرف على أهم الفوارق بينهما، ففي الأول نجد أنّ الحالة تتعلّق بالجانب الفيزيولوجي الجسدي للفرد، بينما نجد الحالة الثانية تتعلّق بالجانب النفسي الغرائزي، غير أنّ هذا الإختلاف بين الحاليتين في مرجع تعلّقهما، لا ينفي إمكانية أنّ تجتمعا في فرد واحد، كأنّ يكون الفرد مخنّثا ومثليًّا في نفس الوقت.
وعليه فبعد أن عرفنا الفارق الأساسي بين التخنيث والمثليّة، نعود لنقول:
في البداية نشير إلى أنّ الإسلام في بناء منظومته التشريعية كان نظره وملاحظته تنصب نحو الأكثرية، أو ما يمكن أن نعبر عنه بالسواد الأعظم، وعليه فهو يبني منظومته التشريعيّة القانونيّة على أساس أنّ النوع البشري يكون على جنسين، الأنثوي والذكري، وذالك توافقا مع مقتضيات الطبيعة الفطرية التي عليها السواد الأعظم من النّاس.
وللتفريق بين الجنسين، يعتمد الإسلام على جملة من العلامات والدلائل والأعراض الماديّة، منها ما لديه تأثير وظيفي عقلائي على سير الحياة التي يقتضيها نوع الجنس، ومنها ما ليس له تأثير وظيفي عقلائي، فاللّحية مثلا من العلامات الكاشفة والدّالة على الجنس الرجالي، غير أنّ تأثيرها عليه وظيفيا غير معتدٍّ به، فلو فقدها الرجل فلن تؤثّر وظيفيا على سير حياته التي يقتضيها الجنس الذكوري، وكذالك الحال مع المرأة فلو اكتسبتها فلن يؤثر ذالك على وظيفتها التي تقتضيها سير حياتها الأنثوية، نعم قد يكون عدم اكتساب الرجل للّحية أو اكتساب المرأة للّحية، له تأثيرات في سير حياتهما العامة، ولكن هذه التأثيرات في الواقع ضعيفة ويمكن تجاوزها، لوضوح كونها تعود لتلك الاعتبارت التي فرضها واقع التفكير البشري، وبالتالي فهي تأثيرات اعتبارية لا هي حقيقيّة واقعيّة.
بينما لو أتينا إلى بعض العلامات المؤثرة وظيفيًّا، كاكتساب الرّحم وما يتبعه من أعضاء، سنجد أنّ فقدان المرأة له سيؤثر تأثيرًا وظيفيا مباشراً على سير حياتها كأنثى، ويحكم بذالك العقلاء من بني الإنسان، ولو اكتسبه الرجل فسيكون الحال أعقد.
والأمر الثاني الجدير بالملاحظة هو أنّ الإسلام وبعد أن يؤسس منظومته على أساس أنّ النوع البشري يكون على صنفين - إناثًا وذكورًا - إلاّ أنّه لا يهمل تحقّق التداخل في العلامات والدّلائل الكاشفة على صنف النوع البشري، بل بعد إقراره بها، يعمل على علاجها بما يُسمى بـ «الإلحاق»، بمعنى أنّه يضع جملة من الضوابط المندرجة في طول بعضها، وعلى أساس هذه الضوابط يَحْكم بأنّ هذا الفرد الذي تداخلت فيه العلامات الماديّة، يُلحق بالإناث، وبالتالي تتم معاملته على كونه أنثى، أو يلحق بالذكور ويتم معاملته في المجتمع والتشريعات على كونه ذكرًا، ولمن يريد الإطلاع على تفاصيل ذالك فليراجع المنظومة الفقهية الإسلامية، في خصوص التعامل مع الخنثى في ما يتعلّق بالزواج، والميراث والصلاة .......إلخ.
فالإسلام وبعد أن حلّ مشكلة «التخنيث» من خلال إرجاع المخنّث لإحدى الجنسين، وبالتالي يكون له وعليه الحقوق والواجبات التي ثبتت للجنس الذي أُرجع له، وذالك مراعاة للفطرة التي فطرت عليها تركيبتة، خاصة أنّ هذه الحالة هي من الأمور القهرية، التي لا دخالة لصاحبها في تحقّقها، فهي تكوينية بحتة.
فهو بعد أن يقرّ ويحل مشكلة التخنيث، لكونها من الأمور الخارجة عن إرادة صاحبها، نجده يرفض الإقرار بحالة المثلية بكلا صنفيها، بل ويُصنّفها في خانة أشدّ الرذائل بشاعة، ويحكم بكونها من الانحرافات النفسيّة الشاذّة، ولذالك لو عدنا للمنظومة التشريعية الإسلامية سوف نجد أنّ المثلية إذا تحقّقت بين ما يصدق عليهما أنّهما ذكران، أُطلق على هذه الحالة مفردة «اللِّواط»، أمّا إن كانت حاصلة بين ما يصحّ نعتهم بالإناث، عندها يطلق على هذه الحالة مفردة «السِّحاق»، وكذالك جعلت المنظومة التشريعية الإسلامية مجموعة من العقوبات، التي تختلف باختلاف الحالة التي عليها فاعل هذه الرذائل، فإن كان الرجل أو المرأة خاضعين تحت عقد زواج تكون عقوبتهما أشدّ من الذين لم يتزوجوا، فمن يريد الإطلاع، فليراجع باب الحدود في المنظومة الفقهية الإسلامية.
والحقّ في المقام: هو أنّ المبدأ الأساسي الذي نشخّصه في سبب عدم إقرار الإسلام لحالة «المثليّة»، هو أنّ الشارع ولعلمه بإمكانية الإنسان على ضبط والتحكم في نفسه، بل إنّه تعالى لا يكلّف نفسًا إلاّ ما تقدر عليه ((وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا))(المؤمنون ـ 62)، أوجب على الفرد البشري من البداية تكليف لزوم ضبط النّفس والتحكم في ميولاتها، بحيث تتناسب مع الفطرة التي جُعلت عليها تركيبة الإنسان، وخاصة اتجاه تلك الميولات الشاذة التي تتعارض مع فطرة الإنسان، ولأجل تركيزه هذا التكليف، رفض الإعتراف أو مراعاة الميل المثلي الذي لا يختلف عاقلان في كونه ميلاً شاذًا ترفضه الطبيعة البشرية العاقلة، لوضوح أنّ التماهي معه يؤدي إلى ضرب أهم أساس ولَبَنَة تتشكّل منها بُنية المجتمع البشري، فالعلاقة الجنسية التي من خلالها تحافظ البشرية على وجودها هي من أبرز العناصر التي من خلالها تتأسّس الأسرة التي هي في نظر الإسلام اللَّبَنَة الأولى المشكّلة للمجتمع البشري، ومع حرف هذه العلاقة إلى ما يخالف الفطرة البشرية، نكون في هذه الحالة نعمل على تقويض عرى ولبَنَات المجتمع، التي ستؤدي ليس لحرف مسيرة الإنسان نحو الكمال فقط ، بل ستؤدي في آخر الأمر إلى التفكّك أو الاندثار.
فنحن لو عدنا للخطاب القرآني سنجد المولى تعالى الذي خلق وصوّر الإنسان، يخبرنا أنّه قد مكّن النّفس البشرية وأعطاها الإستعداد اللازم لتنحو نحو الفجور، الذي لا يتحقّق إلاّ من خلال اتباع الميولات والشهوات النّفسية الشاذّة، والمتعارضة مع الفطرة التي خُلقت عليها تركيبة الإنسان، التي تقتضي وتحتاج للسير نحو الكمال، في الوقت الذي مكّن أيضا النّفس ممّا يجعلها تَنْحُو نحو الطريق المقابل للفجور وهو طريق التقوى، الذي لا يتحقّق إلاّ من خلال ضبط وتربية النّفس البشرية على الفضيلة، وتنقيتها من الرذيلة، فقد قال تعالى ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8))(الشمس ـ 7ـ8).
بل ونجده تعالى يُقرّر ويَكشف بل ويُرْشِدنا بعد قَسمه بـ «الشّمس والقمر والنّهار واللّيل والسّماء والأرض والنّفس» إلى أنّ الفلاح والنجاح المطلقين للإنسان، سواء في الحياة الدّنيا أو الآخرة، متوقفٌ على تزكية وتطهير وتنقية وتنمية الفرد لنفسه التي بين جنبيه من الرذائل والشوائب، وكذلك تنميتها في ما يتناسب مع الفطرة البشرية السليمة، وأيضا يرشدنا ويكشف لنا أنّ الخيبة والخسارة المطلقتين في الدنيا والآخرة مرتبطتان بالدّس على النّفس، من خلال إخفاء عيوبها وميولاتها الشاذّة عن حقيقته، أو إخفاء مسيرها في طريق الفجور عن حقيقته لأجل تجنيبها اللّوم والمحاكمة التي عادة تنعقد في داخل الإنسان بعد ارتكابه للرذيلة، فقد قال تعالى في كتابه: ((قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا(10))(الشمس ـ 9ـ10).
وخلاصة كل ما سبق هو: أنّ الإسلام أقرّ بحالة «التخنيث» وأوجد لها الحلول التي تتناسب مع النُّظم الإجتماعية السامية من جهة، ومع الحقوق الإنسانية للمخنّث من جهة أخرى، لوضوح أنّ إيجاد وتحقّق هذه الحالة، ليس لصاحبها أي دور في ايجادها وتحقّقها فيه، بينما يرفض الإسلام بشكل قاطع تناسبا مع ما يرفضه عقل العقلاء، الاعتراف بحالة «المثلية الجنسيّة» لوضوح أن لصاحبها دور كبير في إيجادها وتحقّقها فيه، وذلك من خلال انسياقه نحو حالة يحكم عقلاء بني الإنسان، بكونها شاذّة ومفسدة للواقع البشري ومسيرته نحو الكمال، وكذالك لتركه ذاك التكليف المتعلّق بضبط وتربية النّفس وردعها عن الانسياق لمثل هذه الميولات، التي تظهر في الفرد نتيجة عدّة عوامل خارجية لا تكوينية، منها البيئة والظروف، ومنها التربية والنشأة، ومنها الانسياق وراء ميول أخرى بحيث تكون الميول المثلية نتيجة للانسياق الفرد وراء الإفراط في الميل الجنسي عموما ...إلخ.
وعليه، فليس رفض ظاهرة «المثلية» بكلا صنفيها، هو سلب لحقوق عدد شاذ من بني الإنسان، كما يريد البعض تسويقه، بل هو مطلب عقلائي للحفاظ على المصالح العليا والأساسية، المتعلّقة باستمرار وجود النوع البشري، وهو أيضًا تصدّي للحيلولة دون تشريع وتبرير لانحراف نفسي خطير، يحكم العقل والتشريع الإسلامي بلزوم ووجوب تصحيحه وعلاجه، من خلال عملية ضبط النفس وتربيتها، وادعاء بعض المثليين عدم مقدرتهم على السيطرة أو تغيير هذا الميل، شبيه تماما بالذي يدّعي عدم مقدرته على ترك إدمان المخدّرات أو الخمر، لإنها كلّها شهوات وميولات نفسية اتجاه أشياء لتلبية وتحقيق عنصر واحد يسمى اللّذة، ولا اختلاف جوهري بينها بل قد يختلفان في المنشأ والمتعلّق والشدّة والضعف فقط .
الواقع يخبرنا بكل وضوح أن الفرد البشري لديه القدرة ليس فقط على تغيير ميولاته النفسية، وتصوّراته الفكريّة، وحتى معتقداته الدينية، بل لديه القدرة على تغيير فطرته التي وجد عليها، وبالتالي فالعجز في تغيير الميولات لا يعود لكونها أمور تكوينية كما هو حال الخنثى ، بل لأسباب أخرى يمكن للفرد اكتسابها، كضعف الإرادة، وعدم الرغبة في التغيير نتيجة خلفية نفسية أو فكرية ثقافية...إلخ.
ونختم كلامنا، أن الميولات الجنسيّة الشاذّة، عديدة وليست مقتصرة على ميل الذكر نحو الذكر، أو الأنثى للأنثى، بل هناك ميولات أخرى منها: ميل الكبار نحو الأطفال الصغار، أو ميل الذكر نحو الأموات، كما نراه قد تحقّق عديد المرات في أمريكا، أو ميل الذكر أو الأنثى نحو ممارسة الجنس بالعنف الشديد، أو الميل نحو حتى الحيوانات، وغيرها الكثير الميولات.
فمن يريد تشريع وتبرير المثلية، لماذا يتغافل عن باقي الميولات الأخرى الكثيرة، بل ويُلْزم أصحابها بضرورة ضبط ميولاته والعمل على السيطرة عليها وعلاجها، ثمّ يغض النظر عن المثلية، فالملاك بينهم واحد، الأصل أيضا واحد، فكل هذه الميولات تخالف ما تقتضيه تلك الفطرة التي خلقت عليها تركيبة الإنسان؟!
حبيب مقدم
الأكثر قراءة
25619
18665
13838
10699