2024-03-19 495
هل الدين منع المسلمين من التقدّم؟ مقارنة بين أقوال المفكرين ومزاعم «مدّعي الثقافة»!
قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}، البقرة: 171، مثل ضربه القرآن الكريم لكل من لا يستفيد من العلم والهدى إلا كفائدة البهيمة من صوت الراعي، فهي لا تفهم منه شيئاً غير مناداتها بالقدوم أو زجرها بالابتعاد، يقول العلامة الطباطبائي في تفسيره: «ومثلك ـ أيها النبي ـ في دعاء الذين كفروا كمثل الذي ينعق من البهائم بما لا يسمع من نعيقه إلا دعاء ونداء ما، فينزجر بمجرد قرع الصوت سمعه من غير أن يعقل شيئا فهم صم لا يسمعون كلاماً يفيدهم، وبكم لا يتكلمون بما يفيد معنى، وعمى لا يبصرون شيئاً فهم لا يعقلون شيئاً لأن الطرق المؤدية إلى التعقل مسدودة عليهم». الميزان، ج1، ص420.
هذا المثل ينطبق بحذافيره على بعض المتنطعين من مدعي الثقافة في هذا
الزمن القفر، ممن تراهم يكثرون ذكر الأقوال من دون معرفة المآل،
وليتهم توقفوا عند ذلك، بل راح يتلاعب بكلماتهم الكُتاب من غير هدى
ولا كتاب منير.
من هؤلاء شخص كَثُر ظهوره الإعلامي مؤخراً، يجيد استغلال الوقت بسرد
أقوال ينسبها لباحثين معروفين مؤيداً بها أفكاره، ومن حوله شباب
وشيبة متحلقين لا يطالبونه بسند وهم بأمره يعملون، مفتونون بسعة
ثقافته وكثرة اطلاعه، وإذا به يكيل التهم للإسلام محملاً إياه جريرة
تأخر المسلمين، وأنه صار عائقاً أمام تقدمهم، فلابد من الاعتبار
بأوروبا، التي ما تقدم إلا بعد أن اتخذت دينها ورائها ظهريا!!
مستشهداً بكلمات بعض الكُتاب الذي أجزم أنه لم يقف على كتبهم وإنما
هي كلمات مرت عليه كراما.
وكعادتنا بنقاش الأفكار لا الشخوص، نكتفي بذكر جملة أمور يتضح من
خلالها عوار كلماته، وسطحية فهمه، وأن الرجل يهرف بما لا يعرف،
كحاطب ليل لا يفرق بين شجر وحجر، ولا بين الدرة والبعرة.
فمما لا خلاف فيه أن اتهام فكر معين ـ دين أو فلسفة ـ بأنه سبب
التأخر الحضاري يتوقف على اشتمال هذا الفكر على معوقات التقدم،
كمنعه من حيازة العلم وتحصيل أسباب الترقي، مع أن العدو والصديق
يشهد بأن الإسلام أكثر الديانات حثاً على طلب العلم وتحصيل أسباب
القوة والمنعة. ولا داعي لذكرها فهي أشهر من أن تذكر.
وقد غفل هذا الإنسان أو تغافل عن ذكر أقوال المختصين في فلسفة
التاريخ، في أسباب اضمحلال الحضارات، باعتبار ان نهوض الأمم
وانحطاطها من أهم مسائل هذا العلم، والذين قد أجمعوا على أن أسباب
الانحطاط هي جملة أمور ليس منها الدين، بل على العكس، فالدين دائماً
يكون من أسباب نهوض الحضارات والأمم، واليك أهم الأقوال في سبب زوال
وانحطاط الحضارة من لسان أهم الباحثين في هذا المجال:
أولاً: ابن خلدون والعصبية: ابن خلدون هو أول من بدأ يقرأ التاريخ
قراءة مختلفة، فبينما كان التاريخ يقرأ على أنه مجموعة حوادث متفرقة
ومترتبة بحسب الزمان، جعل ابن خلدون التاريخ مجالاً للاستقراء
والتحليل واستنتاج القوانين التي تحكم حركة التاريخ، ومن خلال هذا
الأسلوب تمكن من ان يستخلص نظرية في نشوء الدول واستقرارها، ثم
تحللها واندثارها، جاعلاً نظرية العصبية القائمة على النسب او أي
رابطة اجتماعية أخرى هي الأساس في نهوض الدولة، وبقدر تحلل وضعف هذه
الرابطة يصيب الدولة الوهن وتؤول الى الزوال والاضمحلال. فكان
السؤال الأول الذي يحاول ان يجيب عنه ابن خلدون: كيف تقوم الدولة،
وكيف تنهار؟ وقد «نظر ابن خلدون الى الدولة على أنها كائن حي يولد
وينمو ثم يهرم ليفنى، فللدولة عمر مثلها مثل الكائن الحي تماماً»،
فلسفة التاريخ، رأفت غنيمي.
ويدور الفكر الخلدوني في الدولة والحضارة على قانون العصبية، ويريد
بها: الالتحام الذي يكون بين الأقارب او القبائل او العشائر، يدفع
للمناصرة والمطالبة بالملك والمغالبة في سبيله، ويدخل في العصبية
التحالفات والتكتلات التي يجمعها هدف واحد، فإذا اشتدت هذه العصبية
أوصلت أصحابها الى الملك والسلطة، وبعد وصولهم للغاية تبدأ هذه
العصبية بالضعف شيئاً فشيئاً، الى أن ينهار هذا النظام ويقوم نظام
آخر.
وفي رأي ابن خلدون إن العصبية إذا اقترنت بالدين لا يقف أمامها شيء،
«فالصبغة الدينية تذهب التنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية
(العرقية) وتفرد الوجهة الى الحق». فنهوض وقيام الأمم بحسب نظرية
ابن خلدون يتقوم بأمرين: وجود العصبية، ووجود الفكر (الدين).
وأما عوامل إضعاف هذه العصبية وبالتالي إضعاف وزوال الأمم، فهما
أمران ايضاً:
الأول: الخضوع والانقياد، إذ «المذلة والانقياد كاسران لثورة
العصبية وشدتها، فإن انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها، فما رئموا
المذلة حتى عجزوا عن المدافعة، ومن عجز عن المدافعة فأولى أن يكون
عاجزاً عن المطالبة والمقاومة». تاريخ ابن خلدون، ج1، ص141.
الثاني: الترف والنعيم، فكلما زاد انغماس أفراد العصبة في النعيم
ضعفت رابطتهم شيئاً فشيئاً حتى تضمحل.
والنتيجة فالدين عامل حاسم في نهوض الأمم والحضارات، وضعفه سبب في
زوالها واضمحلالها.
ثانياً: أرنولد توينبي وقانون التحدي والاستجابة: وتتلخص نظرية
توينبي بأن المجتمع إذا واجه تحدياً كبيراً، خرج من رحمه رجال
مميزون، مبدعون، وهؤلاء المبدعون الكبار هم من سيقومون ببناء
الحضارة، أو يطلقوا شرارة قيامها، كالأنبياء والرسل، أو من المفكرين
الذين بنيت على أساس أفكارهم الحضارات.
يقول توينبي: «يواجه الإنسان في طريقه لبناء الحضارات مجموعة من
التحديات، فيتعامل معها إما باستجابات ناجحة تؤدي الى التغلب عليها
والوصول الى تحقيق النهضة المنشودة، وصولاً للحضارة، أو الى
استجابات فاشلة لا تؤدي الى تحقيق النهضة والحضارة». فلسفة التاريخ،
جاسم سلطان، ص89.
فالتحديات إذن هي سر نهضة الأمم، ولولاها لما وجدت الحضارات، فخذ
على سبيل المثال التحديات التي واجهت قبائل المغول، كيف انتجت
معالجات جنكيز خان التغلب عليها من خلال الخروج الى أراضٍ جديدة
بنوا فيها مجدهم. يقول روبرت شولر: «إن الصراع هو مكان ولادة
الإبداع الأعظم»، داني كوكس وجون هوفر، القيادة في الأزمات. ويقول
الدكتور كاريل: «الأهداف التي تعمل على إثارة الحافز فينا تقوم
بتقديم أجمل الهدايا لنا على شكل إنجازات»، نفس المصدر. فالتحديات
الخلاقة هي من تفرز الحضارات الكبيرة، والمجتمع المتحضر هو وليد
سلسلة التحديات والاستجابات الناجحة.
فالركن الأول من نظرية توينبي هي التحديات، وأما الركن الثاني، فهم
الأشخاص المبدعون والقادة الملهمون أولئك أصحاب الرؤية والفكر، فإذا
انقادت لهم الأغلبية قادوها للتغلب على التحديات.
هذا ما يخص نهوض الحضارات، وأما أسباب سقوطها وضعفها، فيعزوه توينبي
الى ثلاثة عوامل:
ـ ضعف القوة الخلاقة في القيادات التالية للقادة الملهمين، وتحولها
الى قيادة تعسفية.
ـ تراجع ولاء وانقياد الأغلبية لقيادتهم.
ـ الانشقاق وضياع وحدة المجتمع.
ونلاحظ أن السببين الأخيرين من آثار السبب الأول في الحقيقة، فإذا
حدث ضعف في القادة وفقدوا إبداعهم، فإنهم يتحولون تلقائياً الى قوة
تعسفية، تقوم بمنع المبدعين الاخرين من تقديم إبداعاتهم، خشية
إحراجهم وانكشاف عوراتهم. فيتراجع التأييد الشعبي لهم، ويحصل ما
يسميه توينبي بـ (زمن الاضطراب)، والذي يقود الى بداية حالات
المعارضة والانشقاق، وينتهي الى الانهيار.
لذا حرص الإسلام على اختيار القيادات الكفوءة فعن رسول الله صلى
الله عليه واله «ما ولت أمة أمرها رجلاً قط وفيهم من هو أعلم منه
إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا» البحار،
ج10، ص143.
ثالثاً: هيجل وصراع الأفكار: إن تفسير التاريخ عند هيجل يقوم على
النظر لكل فترة تاريخية على حدة، تولد فيها فكرة رئيسة ويولد معها
نقيضها جنيناً في بطنها، ثم يكبر هذا الجنين نتيجة ظهور بعض الأخطاء
والأعراض الجانبية للفكرة الأولى، حتى يصبح قادراً على أن يصارع
الفكرة الأم، ليتولد من صراعهما وليداً جديداً قد أخذ حسنات أبويه
(الفكرتين المتناقضتين)، ولنأخذ مثلاً قريباً، حصل نتيجة صراع
الدولة الدينية والدولة اللادينية في أوربا، فبعد ظهور الأخطاء
الكبيرة في الحكومات الدينية في أوربا نمت في أحشائها فكرة الدولة
اللادينية، حتى ضاق الناس ذرعاً بالحكومة المؤيدة من الكنيسة والتي
تحكم باسم بابا الكاثوليك، ثار الناس في فرنسا رافضين هذا النوع من
الحكم، فتشكلت حكومات متعاقبة بعد الثورة الفرنسية كان همها الأول
محاربة كل مظاهر الدين، وعرفت هذه الفترة، بـ (عصر الإرهاب)، ولكن
ولسرعة ظهور أخطاء وفظائع هذا النوع من الحكم، لم يستمر، حتى تولدت
فكرة وسطية، عرفت بالحكومة المدنية.
وهكذا يتقدم العالم ويتطور حتى يصل الى مرحلة الاتزان والكمال
التام. هذا الأمر تجسد في الإسلام بفتح باب الاجتهاد، والتطور في
فهم النص الديني على مر العصور، فالمجتمعات بحاجة الى تجدد أفكارها،
وأن نؤسس لمساحة واسعة لطرح الأفكار الجديدة لتمارس دورها في تطوير
المجتمعات، ورصد الخلل في تطبيق الأفكار القديمة على الواقع،
فالواقع متجدد متغير يفتقر الى مرونة تشريعية، وهو ما يعرف اليوم
بمسألة الثابت والمتغير في الشريعة، وكم يمتلك الإسلام من آليات
تمكنه من التماهي مع المتغيرات، قد أشرنا لبعضها في مقال سابق. وقد
التفت لذلك جملة من كبار المفكرين من غير المسلمين، مثل برنادشو
الكاتب الإنكليزي المتحرر، حيث قال: «لقد كنت دائماً أكن غاية
الاحترام لدين محمد بسبب حيويته العجيبة، وفي رأيي أن الإسلام هو
الدين الوحيد الذي يملك الاستعداد للتلاؤم، ولتوجيه الحالات
المتنوعة والصور الحياتية المتغيرة ولمواجهة العصور المختلفة، وأنني
لأتنبأ ـ وأن علامات هذه النبوءة قد ظهرت من الان ـ أن دين محمد
سيكون محل قبول أوربا غداً».
وقال أيضاً: «ان رجال الدين في القرون الوسطى ـ نتيجة للجهل والعصب
ـ قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة، فقد كانوا يعتبرونه عدواً
للمسيحية، لكنني قد أطلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته اعجوبة خارقة،
وتوصلت الى انه لم يكن عدواً للمسيحية، بل أنه يجب أن يسمى منقذ
البشرية، وفي رأيي أنه لو تولى أمر العالم اليوم لوفق لحل مشكلاتنا
بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر اليها». نظام حقوق المرأة
في الإسلام، ص98.
وكذا الدكتور شبلي شميل اللبناني المادي المذهب الذي قام بترجمة
كتاب أصل الأنواع لدارون الى اللغة العربية لأول مرة مع شرح (بوخنر)
الألماني وجعله في أيدي الناطقين باللغة العربية، وبقصد محاربة
العقائد الدينية، لكنه وبالرغم من ماديته، إلا أنه لا يخفي أعجابه
بالإسلام، وما بناه من عظمة، وكان على الدوام يعد الإسلام مبدأ
قابلاً للتطبيق في كل زمان، وقد كتب مقالاً بعنوان (القرآن
والعمران)، في كتابه فلسفة النشوء والارتقاء الصادر باللغة العربية،
والتي كانت رداً على بعض الغربيين الذين زاروا البلاد الإسلامية وقد
صرح في حينها أن الإسلام هو سبب تأخر المسلمين، وقد سعى شميل من
خلال هذه المقالة الى إثبات أن سبب تأخر المسلمين هو الانحراف عن
تعاليم الإسلام الاجتماعية لا الإسلام، وأن أولئك الغربيين الذين
يهاجمون الإسلام إما أنهم لا يعرفونه أو أنهم سيئوا النية يريدون أن
يشوهوا صورة القوانين والمقررات الإسلامية في انظار الشرقيين ويضعوا
طوق العبودية في أعناقهم.
يقول: «خذ مثلاً شريعة القرآن فإنها من بين الشرائع الدينية،
الشريعة الوحيدة الاجتماعية العملية المستوفاة، التي ترمي الى أغراض
دنيوية حقيقية بمعنى أنها لم تقتصر على الأصول الكلية الشائعة بين
جميع الشرائع، بل اهتمت اهتماماً خاصاً بالأحكام الجزئية فوضعت
أحكام المعاملات حتى فروض العبادات أيضاً... وطالماً جرى أصحابها
عليها صلحت أمور دنياهم على سواهم... ولو بقيت وجهتهم في مجتمعهم
شريعة القرآن وحدها كما هي، لما قام في وجههم حائل يصدهم عن
الارتقاء إلا ما يقوم من كل شريعة اجتماعية جمدت على الأيام، غير ان
الشارع الحكيم نفسه وضع لهم مخرجاً من ذلك الجمود بآيات النسخ نفسها
التي آتاها في قرآنه في حياته لعلهم يتدبرون. فلسفة النشوء
والارتقاء، ص396.
رابعاً: ماركس والمادية التاريخية: يرى ماركس أن صراع الطبقات
وملكية وسائل الإنتاج هما السبب المحرك لعجلة التاريخ، وقد قسم
التاريخ لمراحل، هي:
ـ عصر المشاع البدائي: يعتقد ماركس أن الإنسان الأول كان يعيش حالة
شيوعية مطلقة، حيث لا ملكية، يأكل قدر حاجته، وبالتالي لا يعتدي ولا
يسعى للسيطرة على ممتلكات غيره، فهو يأخذ بمقدار حاجته فقط.
ـ عصر العبودية: إلا ان سيطرة البعض على الأرض ورغبته في السيطرة
على وسائل الإنتاج، حدا به أن يستعبد الناس للعمل فيها، فنشأت
الطبقية، وصار الناس طبقتين، الأولى تزرع وتحصد وهم العبيد، وأخرى
تجني الثمار دون تعب وجهد وهم الملاك.
ـ عصر الإقطاع: وبزيادة ثروة الملاك اتسعت رقعة أراضيهم، فظهرت طبقة
ثالثة هم الفلاحون، وبذلك انقسم المجتمع الى طبقات ثلاث.
ـ عصر الرأسمالية: ومع تقدم قوى الإنتاج وظهور المصانع الكبيرة
وانتشار التجارة، بدأت تظهر الطبقة البرجوازية (ملاك المصانع وأصحاب
رؤوس الأموال)، لتحل محل الإقطاع، وقد أدى ذلك لانقسام المجتمع الى
الطبقة البرجوازية، والأجراء وهم العمال (البروليتاريا). وليبدأ
صراع جديد بين هاتين الطبقتين.
من وجهة نظر ماركس تقتضي العدالة عودة الحياة البشرية الى نقطة
البداية حيث الحياة مشاع، والظلم معدوم، ولكن هذا الهدف لا يمكن
بلوغه دفعة واحدة، لأن: العمال لا يعون وضعهم، وان تقادم الزمن رسخ
حالة تفوق مالكي وسائل الإنتاج، (البرجوازية).
فيكمن الحل عنده في: توعية العمال عن طريق إقامة الأحزاب الشيوعية،
ونقل السلطة ليد العمال عن طريق الثورة، وتحويل الملكية الخاصة الى
عامة.
فإذا نضجت الجموع لاستقبال العصر الشيوعي، يتم إلغاء الدولة، ويعود
الناس لحياة المشاع. فلسفة التاريخ، جاسم سلطان، ص109.
وأما ما يخص الدين، فعند ماركس يكون الدين أفيوناً للشعوب متى ما
انتصر للطبقة البرجوازية (ملاك وسائل الإنتاج)، على حساب طبقة
العمال (الببروليتاريا).
ونحن إذا رجعنا الى الإسلام، نجده قام على نصرة الفقراء، وأن جموعهم
كانوا من أوائل المسلمين، لما وجدوا فيه من عدل وإنصاف، وقد قنن
العلاقة بين المالك والأجير، بما يرفع الحيف عنهما، وان الإسلام
حارب التفاوت الطبقي وتردي الوضاع الاقتصادية، فنلحظ في تجربة النبي
الأكرم صلى الله عليه واله والإمام أمير المؤمنين عليه السلام قوة
الخطاب القرآني الذي يعالج الاستعلاء الطبقي، ويدعو للمساواة وتداول
المال بين الفقراء والأغنياء، تأمل في الآيات الكريمة من سورة
الحشر: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى
فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً
بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا
وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ
(8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ
قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا
مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا
تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا
إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.
خامساً: مالك بن نبي وعناصر الحضارة الأربع: يرى مالك بن نبي أنه
لكي تقوم أي حضارة فلابد ن توفر أربعة عوامل: الإنسان، التراب
(الموارد)، الزمن، الدين.
فالإنسان هو العنصر الحاسم في المعادلة والذي يعطي لها قوتها، وبقدر
النجاح في صناعة البشر في المجتمع تكون نهضته.
والعنصر الثاني هو الموارد، وهو يرى ان كل مجتمع يعاني من نقص في
هذه الموارد، لكن الإنسان الناجح يستطيع إدارتها لتؤدي دورها في
نهضة الأمة.
والعنصر الثالث هو الوقت، فإذا استثمرناه، ورفعنا عن كاهلنا الكسل
استطعنا مضاعفة الإنتاج واختصرنا الطريق نحو التقدم والحضارة.
وأما العنصر الرابع (الدين)، فهو يمثل الفكرة المحفزة التي تدمج
العناصر الثلاثة السابقة وتبعث فيها الحياة، فتجعل الإنسان يشتعل
حيوية ليستفيد من الموارد ويستثمر الوقت، فالدين يلعب دور الباعث
للحركة، وبدونه لا يحصل أي إنتاج حضاري.
وفي تقدير مالك بن نبي ان من أهم خصوصيات الحضارة الإسلامية أنها
نشأت بسبب الوحي الرباني، مما جعلها خالدة خلود المبادئ التي
تحملها، وتدعو اليها، «فجزيرة العرب.. لم يكن بها قبل نزول القرآن
إلا شعب بدوي، يعيش في صحراء مجدبة، يذهب وقته لا ينتفع به؛ لذلك
فقد كانت العوامل الثلاثة: الإنسان التراب الوقت، راكدة خامدة،
وبعبارة أصح: مكدسة لا تؤدي دوراً ما في التاريخ؛ حتى إذا ما تجلت
الروح في غار حراء ـ كما تجلت من قبل بالوادي المقدس، أو بمياه
الأردن ـ نشأت بين هذه العناصر الثلاثة المكدسة حضارة جديدة؛ فكأنها
ولدتها كلمة (اقرأ) التي أدهشت النبي الأمي، وأثارت معه وعليه
العالم». عمر كامل مسقاوي، في تقديمه لكتاب مالك بن نبي (حديث
البناء الجديد).
ويرجع مالك بن نبي سقوط الحضارات الى فقدان القيم الروحية والفضائل
الخلقية باعتبارها جوهر الحضارات، فهو يعزو الأسباب الجوهرية التي
عززت سقوط الحضارة الإسلامية الى «فقدان القيم الروحية والفضائل
الخلقية، باعتبارها قوة جوهرية في تكوين الحضارات، وأينما توقف
إشعاع الروح خمد إشعاع العقل، إذ يفقد الإنسان تعطشه الى الفهم
وإرادته الى للعمل عندما يفقد الهمة وقوة الإيمان». وجهة العالم
الإسلامي، مالك بن نبي.
وقال أيضاً: «والروح وحدها هي التي تتيح للإنسانية أن تنهض وتتقدم،
فحيثما فقدت الروح سقطت الحضارة وانحطت، لأن من فقد القدرة على
الصعود لا يملك إلا أن يهوي بتأثير جاذبية الأرض». نفس المصدر.
كان هذا طوافاً سريعاً في أقوال وأعمال كبار المفكرين، حاولنا فيها
معرفة أقوالهم في سبب سقوط وتراجع الأمم عموماً والمسلمين خصوصاً،
يظهر منها بشكل جلي أن الدين وخصوصاً الإسلام، كان دائماً من أسباب
نهوض الأمم وتتقدمها الحضاري، لا سقوطها وتراجعها.
الشيخ مقداد الربيعي - باحث وأستاذ في الحوزة العلمية
الأكثر قراءة
25620
18666
13838
10699