17 شوال 1445 هـ   26 نيسان 2024 مـ 11:14 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | مقالات في القرآن الكريم |  الحدُّ العقائدي ... المفهوم القرآني للطَّاغوت
2021-11-15   2010

الحدُّ العقائدي ... المفهوم القرآني للطَّاغوت

تعتبر المفاهيم الفكرية من الأسس التي تبنى عليها كل نهضةٍ وحضارةٍ إنسانية، فلا نكاد نلحظ أي حركة حضارية ـ على امتداد التَّاريخ البشري ـ لا تملك منظومةً من الأفكار تعدها أُسُسًا وركائزا لمسيرتها، وعلى هذا النَّمط من السلوك نجد أنَّ الدِّين الإسلامي قد وضع خطواته في التَّأسيس لكيانه الخاص ووجوده؛ وأوضح شاهدٍ على ذلك؛ القرآن الكريم، فإن المتأمِّل في آياته الشريفات؛ يلحظ تصدِّيه لتأسيس وبيان المفاهيم التي يحتاجها الإنسان والمجتمع في حركتهما نحو التكوُّن والبناء.
ومن المفاهيم التي تعرَّض لها القرآن الكريم، مفردة الطاغوت، حيث نجده قد كرَّر ذكرها بهذه الصيغة ثمانية مرات، واستعمل مشتقاتها في آيات أخرى، كالتعبير بـ: طغى، وطغيانهم، طغيانا، ولَيَطْغى، وغير ذلك من التعبيرات.
ونحن في هذه العجالة نروم أن نبيَّن معنى هذا اللفظ في لغة العرب، لمقايسته بعد ذلك بما ورد في القرآن الكريم، حتى نتمكَّن من الوصول للتَّناسب الحاصل بين المعنى اللُّغوي وما استعمله القرآن، فإذا تبين لنا ذلك نقلنا الكلام إلى الجوانب التي أُلحقت بمعنى هذه المفردة.
أصل اللَّفظ في لغة العرب قد أتى من: طَغَيَ وطَغَوَ؛ يَطغَى؛ طُغيانا؛ أي جاوز الحدَّ في الشيء أو القَدْر، والوصف منه طاغية، وطاغٍ، والطاغوت على وزن فَعَلُوت كجبروت وملكوت، وبرهوت، وتاؤُه زائدة وليست أصلية، وقد اُدُّعي أنَّه في اللُّغة صفة مبالغة من طغى، وعليه فالمعنى اللُّغوي المترشِّح من مفردة  الطاغوت هو: المُتَجَاوِز القَدْر في الشيء أو مُتعدِّى الحد فيه.
وأما لو عدنا إلى الاستعمالات والتَّطبيقات القرآنية، فإننا سنجد أيضا شيئًا من التَّناسب الحاصل بينها وبين المعنى اللغوي، فالمعنى الذي يظهر من مفردة طغى  الواردة في قصَّة نبي الله نوح عليه السلام: ((إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء حملناكم في الْجَارِيَةِ))(سورة الحاقة)، هو أنَّه لمَّا تعدَّى الماء حدَّه الطبيعي في الأرض بحيث صار طوفانا، حملنا نوحا عليه السلام والذين معه في السَّفينة حتَّى لا يهلكوا بالطوفان، وأمَّا في الآية الثَّانية المتعلِّقة بنبي الله موسى علي السلام وأخيه هارون عليه السلام في قصَّة ابلاغهما لفرعون مصر، فقد قال تعالى: ((اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى))(سورة طه ـ 43)، فبالإضافة لكونها تشتمل على معنى تجاوز الحد، إلا أنَّها تضيف حيثية التجاوز الموصل لمسائل ذات أبعاد عقائدية، ففرعون قد تجاوز الحدَّ  الذي تقتضيه طبيعته كإنسان أو كحاكم وملك؛ لا فقط في ما يقتضيه الملك والسلطة، بل وصل من خلال علوِّه حدَّ المَعْبُودية التي خصها الله عزَّ وجل بنفسه، كما تبينه القصَّة الكاملة . 
وبناءً على ما اتَّضح من معنىً للطغيان في اللُّغة والكتاب الكريم، يمكن لنا أن نلفت إلى أنَّ مفردة الطاغوت الواردة في كتاب الله، تفيد معنى  يشتمل أيضا على تعدي حدود العبودية وتجاوز رسومها، فهو وصف لشخص متكبر متجبر في الأرض، مُدَّعٍ لما ليس له بحقٍّ .
وعليه، وبما أنَّ الاستعمال القرآني لمفهوم الطغيان يفيد معنى: تجاوز الحدود التي تقتضيها طبيعة الإنسان كإنسان أو كحاكم أو كملك، لدرجة وقوع هذا الفرد البشري في ممارسة ما لا حقَّ له فيه من المَعْبُوديِّة،  بل هي في الواقع حقوق مولوية خاصة به تعالى شأنه، فلأجل هذا فقد علَّق القرآن جملة من الأحكام والمواقف المتشدِّدة اتجاه كلِّ فرد تحقَّقت فيه صفة الطغيان، بحيث صار مصداقًا واضحا لمفردة الطاغوت، كأنْ رفض ومنع بشدَّة  ولاية الطاغوت، والتَّحاكم إليه، والقتال في سبيله،  وعبادته، بل وأوجب رفض الطاغوت والكفر به.
فإنك إذا لاحظت آيات سورة البقرة والنَّحل وجدت نحوًا من التَّشديد على وجوب الكفر بالطاغوت والدعوة إلى اجتنابه، وهذا النحو المذكور من التنبيه يكشف لنا عن درجة عالية من المبغوضية الإلهية اتجاه سلوك الفرد  لطريق الطاغوت، كما أنَّنا يمكن أن نستظهر التَّشديد من المقابلة الحاصلة في آيتي سورة البقرة؛ حيث إنه تعالى جعل ولايته للمؤمن في قبال ولاية الطاغوت لغير المؤمن، وجعل ترك عبادة الطاغوت مقدمة للإيمان به تعالى.
وأمَّا الآيات الثلاثة من سورة النِّساء فإن لسان النهي فيها كان موجها لمن آمن بالطاغوت من أهل الكتاب واعتقد أنَّه على سبيل الهداية، وأنه أهدى من الذين آمنوا، وقد عرفنا فيما سبق أن الله تعالى لم يجز للإنسان أن يترك الكفر بالطاغوت فكيف له أن يجيز الإيمان به! وأما الآية الأخرى فإنها كانت تحكي رغبة بعض الناس في التحاكم إلى الطاغوت فلم يسمح الله تعالى بذلك، بل ذمهم وبيَّن لهم أنَّه قد أمرهم بالكفر به، فالله تعالى لا يسمح بتعامل المؤمن بأي وجه مع الطاغوت، وهذا أيضا ما يؤكده بيانه بأن المؤمنين يقاتلون في سبيل الله تعالى بينما  غير المؤمنين يقاتلون في سبيل الطاغوت، ثم يدعو المؤمنين لمواجهتهم لأنهم في الحقيقة أولياءُ للشيطان، والشيطان يدَّعي المعارضة لله تعالى في أرضه.
وفي نفس السِّياق نجده تعالى يشنع على عُبَّادِ الطاغوت في آية سورة المائدة، ويجعلهم من مصاديق شرِّ النَّاس مثوبة عنده، فإنه تعالى يعدهم بأنَّهم أصحاب النَّار، ويساويهم بالخارجين عن رحمته والمغضوب عليهم ومن الذين جعلهم قردة وخنازير . 
وكذلك الأمر في بيانه لوجوب اجتناب عبادة الطاغوت والذي يمكن أن يظهر من آيتي سورة النَّحل (36) والزُّمر (17)، فإنه تعالى يعبِّر بأنَّه بعث الرَّسول مبلغا عنه بوجوب عبادة الله تعالى لوحده، ولزوم اجتناب عبادة الطاغوت، فمنهم من اختار طريق الهداية، ومنهم من اختار طريق الضلالة والتيه، بحيث وعد بأنَّ للمكذبين به عاقبة غير محمودة، ومدح من اجتنب الطاغوت وعبادته وبشره بالعاقبة الحسنة.
فنحن وعند الوقوف على عموم علاجات الآيات الثَّمانية السابقة لتحديد مفهوم الطاغوت، نخلُص إلى مسألتين مهمتين: 
الأولى: نوع التِّرتيب القائم في علاقة الفرد مع الطاغوت، فقد يترك أو يتجاهل الفرد ضرورة الكفر بالطَّاغوت واجتنابه، إلى أن يصل بدون وعي منه إلى الإيمان به والتَّحاكم إليه وتشتد الحالة إلى أن يصبح الفرد مقاتلا في سبيل الطاغوت فيكون قد وقع بذلك في المحذور. 
والثَّانية: أن جميع المسائل التي تمَّ طرحها في الآيات السابقة لها علاقة وطيدة بمبدأ الإيمان بالله تعالى ومعبوديته، فإذا اتضح هذا كان من الجدير التأمُّلَ في هذه المسألة، وفي من نتَّبع ومن نتولى، وممَّن نتبرأ، حتى لا نقع في محذور الإيمان بمن لا يرضى الله الإيمان به واتباعه.


عبد الجليل بن رشيد الجزائري

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م