18 شوال 1445 هـ   27 نيسان 2024 مـ 5:14 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | شخصيات إسلامية |  محمد إقبال ... شاعر الحرية والعدالة الاجتماعية
2021-11-15   957

محمد إقبال ... شاعر الحرية والعدالة الاجتماعية

ربما ليس من الهين الحديث عن المفكر والفيلسوف والشاعر الباكستاني الكبير محمد إقبال أو الإلمام به وبالجوانب المشرقة في حياته التي كانت عبارة عن جذوة متوقّدة بالإبداع في شتى المجالات، فهو من الرجال القلة الذين حفلت حياتهم بالعطاء ووهبوا أنفسهم للإنسانية جمعاء. 
فإقبال من العظماء الذين زخرت أعمالهم بالتنوّع الإنساني المبدع، شاعرٌ حمل رسالة سامية إلى الإنسانية لم تغلب عاطفته عقلة، مفكرٌ دعا المسلمين إلى الحفاظ على أسس حضاراتهم الإسلامية التي ترتكز على الأخلاق الفاضلة، فيلسوف سبر غور العلوم (الميتافيزيقيا) فعمل على ربط الفلسفة بالدين كقوة كبرى لأنه آمن بالإسلام كعقيدة ونظام، مصلح حارب الرذيلة والتفسّخ والانحراف في المجتمع ولم يكتف بمعالجة مشاكل أمته الاجتماعية فحسب، بل دخل ميدان السياسة وخاض غمارها وشارك شعبه في محنته ووقف معه من أجل نيل الاستقلال والتحرر الكامل للشعب الباكستاني المسلم، وقد عده أحد دارسي حياته أنه أحد الأربعة الذين (نادوا غفاة البشر) في الشرق على حد تعبير الشاعر الفارسي عمر الخيام وهم جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبدة، وعبد الرحمن الكواكبي، فهو من قادة الفكر الإسلامي والإنساني وبُناته.
كانت حياته كلها مشاريع متعددة الجوانب لنشر رسالة الحق والخير.. رسالة الإسلام العظيم بأبهى معانيه وأجمل صوره، رسالة الأخوة والإنسانية المجردة من الطبقية والاستغلال، رسالة الحرية والعدالة والسلام، وتعدّدت وسائله في نشر وإقامة هذه المشاريع، فهو الثائر الذي يبغي استقلال بلاده، وهو المصلح الذي مقت التعصّب العرقي والطائفي، وهو الوطني المخلص الذي أيقظ النفوس بخطبه ورسائله، وهو الشاعر الإنساني بفلسفته، الصادق بدعوته، الحقيقي بعقيدته، الذي آمن بأن الفن للمجتمع وآمن بالالتزام بالآداب ورد على الماديين ودعاة التحلل والانحراف.

سيرة الفكر
ولد الشاعر والفيلسوف محمد إقبال بتاريخ 22/2/1873م في أسرة متوسطة الحال تتخذ الزراعة مهنة لها في قرية سيالكوت من مقاطعة البنجاب التي كانت تابعة في ذلك الوقت إلى الهند قبل أن تصبح تبعيتها للباكستان بعد انفصالها عن الهند. 
وتعود أسرة إقبال إلى جذور وثنية تدين بالرهمية وتنتسب إلى الجنس الآري ثم أسلمت هذه الأسرة عن طريق أحد أجدادها قبل ثلاثة قرون تقريباً في عهد السلطان المغولي (أكبر)، وكانت هذه الأسرة تسكن (لوهر) وهي قرية في كشمير، فهاجر جد إقبال ومعه أولاده الثلاثة ومنهم ـ نور محمد والد إقبال ـ، إلى سيالكوت لطلب الرزق واستقر في هذه المدينة الهادئة الجميلة.
نشأ إقبال تحت رعاية والده الذي كان زاهداً تقياً ورعاً محباً للخير فورث تلك الصفات عن أبيه وتلقى على يديه مبادئ القراءة والكتابة والأخلاق والفضيلة والصلاح، ثم درس القرآن الكريم على أحد الكتاتيب وحفظه ونهل من علومه الإلهية السامية، وكان والده كثيراً ما يقول له: "يا بني إذا أردت ان تفقه القرآن فاقرأه كأنّه نزل عليك"، ويقول إقبال عن وصية والده: "ومنذ ذلك اليوم بدأت أتفّهم القرآن وأقبل عليه فكان من أنواره ما اقتبست ومن سحره من نظمت".
وبعد أن أنهى دراسته الابتدائية التحق بمدرسة البعث الأسكوتية للدراسة الثانوية وتتلمذ على يد أحد العلماء المتضلعين في آداب اللغة العربية والفارسية وهو شمس العلماء السيد مير حسن الذي أثر في تلميذه أيّما تأثير وشجعه على كتابة الشعر، فبدأ إقبال يحرِّر المقالات الاجتماعية والأدبية وينشرها في الصحف والمجلات الهندية. 
وبعد إكماله لدراسته الثانوية التحق بكلية لاهور الرسمية بعد أن اجتاز الامتحان الذي أجرته له الكلية للقبول بامتياز وقد هيَّأت له أجواء الكلية مجالاً واسعاً للاتصال والتعرف على كثير من الأعلام من العلماء والأدباء المسلمين وغيرهم فاتصل بالمستشرق الانكليزي السير توماس آرنولد صاحب كتاب (دعوة الإسلام) الذي كان معجباً بإقبال كثيراً. 
واتصل إقبال كذلك بالشيخ عبد القادر صاحب مجلة (محزن) التي كان إقبال ينشر فيها قصائده ومقالاته، ثم حصل على شهادة الماجستير من نفس الكلية فاختير على إثرها أستاذاً للتاريخ والفلسفة ثم سافر إلى لندن فالتحق بجامعة كمبردج وذلك عام 1905 فحصل منها على شهادة في الفلسفة الأخلاقية وألقى كثيراً من المحاضرات الإسلامية من على منابر هذه الجامعة. 
عاد إقبال إلى بلاده ليقدم فيها عطاءه العلمي والفكري، ثم سافر إلى المانيا لينال شهادة الدكتوراه بدرجة شرف عن أطروحته (تطور الميتافيزيقيا في بلاد فارس) وذلك عام 1908م.
عاش إقبال في عصر تكتنفه الظلمات، وتسوده الفاقة، ويطغى عليه الجهل والفقر والمرض والتخلف الثقافي والفكري، فكان يدعو إلى الرجوع للقرآن الكريم ومبادئه السمحاء ونبذ الخلاف والفرقة والتعصب الديني والطائفي الذي غرسته السياسة البريطانية في نفوس أبناء الهند، فصرح بآرائه السياسية وأفكاره الوطنية داعياً المسلمين إلى الانتباه من غفوتهم والعمل على بناء الأمة الإسلامية من جديد. وكان يطرح أراءه شعرا ونثرا ومن ذلك قوله:

هبّ يا برعمَ النرجسِ مفتوحَ العيونْ 
هبَّ إنَّ العيشَ أمسى نهباً للمعتدينْ
هبَّ إنَّ الطيرَ ناداكَ بفتّانِ اللحونْ
قمْ على صوتِ أذانِ الفجرِ يدعو المتقينْ
هبَّ بالنارِ تلظى في النفوسِ اليقظينْ
هبَّ يا مَن رحتَ في نومٍ عميقْ

فكان يصرخ محذّراً المسلمين عاقبة التفرقة التي تنخر كيانهم وتشتت شملهم وتبدد قوتهم فيستضعفهم العدو المستعمر ويستكين بهم.

إنّ نارَ العربِ في مهدِ الحرمْ
لغناءِ الناسِ في أرضِ العجمْ
دينُنا الإسلامُ يرمي سره
دونما شرّ لتوحيدِ الأممْ
بيد أنّا قد بقينا في شتاتْ 
دون توحيدِ صفوفٍ في ثباتِ
خوفَ ذا الغربِ الذي يرمي به
في فسادٍ دونَ تهذيبِ الصفاتْ

ويحذّر إقبال المسلمينَ من الانجرار وراء الأهواء:
أتعيشُ بين المؤمنين مفرقاً ؟
للمسلمين وتدّعي التوحيدا
وتظنّ ذكركَ طاعة وعبادةٍ 
وهواكَ صارَ إلهكَ المعبودا

ثم يذكّر المسلمينَ بنبيهم الكريم صلى الله عليه وآله الذي غرس المحبة في النفوس، ويدعوهم إلى التمسك بوصاياه التي تجمع القلوب والشتات:

غرسَ المحبّة أصله من يثربِ
هيَ جنةُ المأوى وغارسُها النبي
إن ضلّتِ الدنيا أعادَ صوابَها
نورُ المدينةِ لا شعاعُ الكوكبِ
ألمْ يُبعثْ لأمَّتِكمْ نبيٌّ
يوحِّدكمْ على نهجِ الوئامِ
ومصحفكمْ وقبلتكمْ جميعاً
منارٌ للأخوةِ والسلامِ
فما لنهارِ إلفتكمْ تولّى
وأمسيتمْ حيارى في الظلامِ

ويشيد إقبال بالأمة التي حملت الحضارة الإنسانية مشعلاً تنير به مسالك التاريخ وكان الفضل في ذلك لنبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله فيقول في مقطوعته (صوت إقبال إلى الأمة العربية):

أمة الصحراءٍ يا شعبَ الخلود
مَن سواكمْ حلَّ أغلالَ الورى
أيّ داعٍ قبلكمْ في ذا الوجود
صاحَ لا كسرى هنا أو قيصرا
من سواكمْ في حديثٍ أو قديمْ
اطلعَ القرآنَ صبحاً للرشادْ
هاتفاً في مسمعِ الكونِ العظيمْ
ليسَ غيرَ اللهِ ربَّاً للعباد
أرسِلِ الشكرَ إلى غيرِ انتهاء
لنبيِّ اللهِ قدسيِّ الجناب
وحباهُ اللهُ مِن عليائه
عزمةً فلَّ بها سيفَ الغيرِ
راكبُ الناقةَ في صحرائِهِ
سارَ فيها راكباً خيلَ القدرْ
كبِّروا للهِ في ظلِّ الحروب
وصفوفاً تحتَ ظلِّ المسجدِ
ضجَّةٌ دانت لهم فيها الشعوبْ
وارتقوا فيها مكانَ الفرقدِ

أما شعره الفلسفي فقد شرح فيه مفهومه للحياة وغاياتها من وجهة نظر إسلامية، وراح ينبذ كل نظرية تتعارض مع مفهوم الإسلام ويرد عليها ويبطلها، فعارض وجهة نظر الفيلسوفين برادلي وهيجل اللذين يؤمنان بوحدة الوجود الداعية إلى فناء الذات في الحياة المطلقة، فيصف إقبال الحياة:
ما إلى الموتِ والحياة التفات    مقصدُ الذاتِ رؤية ذاتَ حسبِ

أما شعره الإنساني فقد حفل بالعواطف الإنسانية التي وقف من خلالها إلى جانب الشعوب المستضعفة، فشنَّ حرباً على النازية والصهيونية وجميع أنواع الاضطهاد العنصري والعرقي مستمداً آراءه من صميم الإسلام وتوجيهات الرسول الأكرم صلوات الله تعالى عليه الذي نادى بوحدة الجنس البشري فكانت قصيدته (بلال) صرخة بوجه الارستقراطية البغيضة ودعوة إلى وحدة الجنس البشري. 
كما تغنى إقبال بالإسلام ونبيه الكريم صلى الله عليه وآله ويفتخر بالأمة التي أنجبته فيقول : "إذا كنت هندياً في أنغامي؛ فإني عدناني الصوت مسلم حنيفي وأفكاري مستمدة من النبي العربي وهل الإسلام إلّا دين الله في الأرض".
أما شعره الاجتماعي فقد حارب به كل شذوذ وفساد، وآمن بفكرة الفن للمجتمع وناصرها، وسخّر شعره في خدمة الناس فمن المشاكل الاجتماعية التي عالجها في شعره هو مطالبته بحقوق المرأة التي ضمنها لها الإسلام الحنيف وحارب السفور بوصفه مفسدة للمجتمع لا يقرها الدين ولا يرضاها الضمير.

فضحَ العصرُ جنّةَ بالسفورِ
نورُ عينٍ وظلمةٌ في الصدورِ
إن تجن متعةَ العيونِ مداها
كان منها الشتاتُ في التفكيرِ
قطرةُ الماءِ لا تحوَّلُ درّاً
دونَ أصدافِها بقاعِ البحورِ

فكان من دعاة أنصار المرأة المعتدلين الذين يريدون منها الاقتداء بسيرة المثل الأعلى للنساء عبر التاريخ السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء في قصيدته الخالدة فاطمة الزهراء عليها السلام حيث صور لنا أفكاره وشعوره تجاه أهل بيت الرحمة عليهم الصلاة والسلام.

نسبَ المسيحُ بني لمريمَ سيرة
بقيت على طولِ المدى ذكراها
والمجدُ يشرقُ من ثلاثِ مواضعٍ
في مهدِ فاطمةٍ فما أعلاها
هيَ بنتُ مَن؟ هيَ زوجُ مَن؟ هيَ أمُّ مَن؟
مَن ذا يداني في الفخارِ أباها
هيَ ومضةٌ مِن نورِ عينِ المصطفى
هادي الشعوبِ إذا ترومُ هُداها

ثم يقول في نهاية القصيدة بعد أن يذكر سيرةَ علي والحسن والحسين عليهما السلام

هيَ أسوةٌ للأمهاتِ وقدوةٌ
يترسّمُ القمرُ المنيرُ خُطاها
لمّا شكا المحتاجُ خلفَ رحابِها
رقّتْ لتلكَ النفسِ في شكواها
جادتْ لتنقذه برهنِ خمارِها 
يا سحبَ أينَ نداكَ من جدواها
نورٌ تهابُ النارُ قدسَ جلالِهِ
ومِن الكواكبِ أن تنالَ ضياها
جعلتْ من الصبرِ الجميلِ غذاءها
ورأتْ رضا الزوجِ الكريمِ رضاها
فمُها يرتّلُ آيَ ربِّكَ بينما
يدُها تديرُ على الشعيرِ رَحاها
بلّتْ وسادتَها لآلئُ دمعِها
في طولِ خشيتها ومِن تقواها
جبريلُ نحوَ العرشِ يرفعُ دمعَها
كالطلِّ يروي في الجنانِ رُباها
لولا وقوفي عند أمرِ المصطفى
وحدودِ شرعتِه ونحنُ فِداها
لمضيتُ للتطوافِ حولَ ضريحِها
وغمرتُ بالقبلاتِ طيبَ ثراها

ولإقبال قصائد كثيرة تغنّى بها بجمال الطبيعة ضمَّن فيها فلسفته وأفكاره وأرجع بحواسه الفكرة إلى عِللها وأسبابها مستخلصاً العبر والعظات منها، من هذه القصائد رائعته (الربيع) التي تسمو بالقارئ إلى أجواء رحبة راسماً صوراً إبداعية تنتقل من الوصف الخارجي إلى الأفق الفكري والفلسفي، فهو يرى إن عمل الشاعر لا يقتصر على نقل التصوّرات الفنية إلى الأخيلة فقط وإنما يجب أن يتناول المسائل الفكرية المتصلة بالحياة البشرية وموقف الإنسان منها.
ترك إقبال أحد عشر ديواناً من الشعر مُلئت بآرائه الفكرية والفلسفية مُصاغة بأنغامه الشعرية الخالدة منها: (أسرار معرفة الذات) و(أسرار فناء الذات) و(رسالة الشرق) و(صلصلة الجرس) و(جناح جبريل).
ولم يقتصر إنتاج إقبال على الشعر بل كتب المقالات الفلسفية والفكرية والأبحاث الإسلامية وألف عدة كتب منها (علم الاقتصاد) و(تطور الميتافيزيقيا في بلاد فارس) و(إصلاح الأفكار الدينية في الإسلام)، وله رسائل وخطب وبيانات جمعت في عدة كتب ولا زال إقبال يرفد الحركة الثقافية والفكرية والاجتماعية بفكرة حتى توفي في 21/4/1938م.

محمد طاهر الصفار 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م