17 شوال 1445 هـ   26 نيسان 2024 مـ 12:19 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | قادة محمديون (الأئمة وبعض الصحابة) |  الحر الرياحي.. الموقف والانعطافة ثم الشهادة
2021-11-17   2921

الحر الرياحي.. الموقف والانعطافة ثم الشهادة

لا تنصرف مواقف المرء حيال الابتلاءات، على وتيرة واحدة، فتراه يتقلب من هذا الموقف الى ذاك، ومن هذه الوجهة الى تلك، يميل مع رياح المواقف التي تبتليه، وليس بالضرورة أن يبقى ثابتا عند موقف واحد، سيما بعد أن تنجلي عن هذه المواقف الاغبرة التي تشوه حقيقتها، عندها يكون تغيير الموقف من الحكمة والمبدئية التي تزيد صاحبها شموخا ورفعة شأن، خصوصا أذا كان تنقلّه هذا؛ لدوافع موضوعية رصينة يشخص من خلالها بميزان البصيرة ما يكون أجدى له أمام الله، يوم الورود.
حديثنا هذا لا يراد منه المواقف البسيطة، ولا السطحية الهامشية، إنما نتحدث عن تلك المنعطفات التي تشكل هيئةً لما بعدها بشكل يغاير ما قبلها، وهي التي تحتاج الى بصيرة نافذة ووعي عميق يستجلى من خلالهما ضرورة الانعطافة هذه، خصوصا إذا ما ترتب عليها تراتبات واسقاطات جوهرية قد تؤدي الى خسائر دنيوية وارباح آخروية، وربما العكس والعياذ بالله. .
وإذا ما طالعنا التأريخ الإسلامي، فثمة من تعّرض لهذه الانعطافات، ففاز باجتيازها زيد وهلك عمر، وما فاز زيد الا عن بينة وما هلك عمر إلا عن بينة.
وبالحديث عن كربلاء وطفها الخالد، وعظم انعطافة معركتها، كونها معركة فاصلة من حيث المبدأ على الرغم من استقراء نهايتها عسكريا، إلا أنها بقيت فيصلا مهما بين الحق والباطل، بل بين المبدأ واللا مبدأ.
والمبدأ هنا ليس ما أُهل من موقف سابق وما يستتبعه من ثبات عليه، كونه موقفا مسبقا، إنما المبدأ الحقيقي في الانتصار للحق وانصاف طلاب الحقيقة والعدل. 
يذكر لنا التأريخ أن حقائق الكثير ممن كان يحسب على منهج الحق، قد تعرت وانكشفت عورتها يوم عُرض عليها الموقف ووزنت بميزان الحق، حتى أن من بين آلاف الكتب والعهود التي اجبرت الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام بقبول الهجرة للعراق أنصافا لهذه المطالب وأحقاقا لدين جده صلوات الله تعالى عليه وآله، لم يبقى سوى السبعين ونيف منهم!
هذا هو الموقف الجمعي، قبالة ما يمكن أن يسمى بالموقف النوعي الذي جسده الحر بن يزيد الرياحي رضوان الله تعالى عليه الذي كان قائداً في الصف الأموي بل ومكلّفاً بأصعب المهام وأبعدها عن النبل والمبدأ، مهمة محاصرة الإمام الحسين ومنعه من الرجوع إلى مدينة جده صلوات الله تعالى عليه وآله، بل ومنعه حتى من الذهاب الى الكوفة التي كانت تضج بأنصاره!
إلا أن للقدر كانت قولة، وللموقف كانت كلمة، فما أن بدأ الحر بن يزيد الرياحي رضوان الله تعالى عليه بمنع الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام من العود أو التحرك الى غير كربلاء، وبعد أن أستنطق الحر قادته عن موقفهم النهائي من الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام ـ كونه كان يعتقد بأن الأمر لا يعدوا أن يكون حصارا ليس إلا، وليس من المعقول أن يتجرأ القوم على قتل حفيد رسول الله وبقيته على الأرض ـ حتى سأل الحر الرياحي رضوان الله تعالى عليه، قائده اللعين عمر بن سعد بالقول:
ـ أمقاتل أنت هذا الرجل؟
فأجاب عمر:
ـ إي والله قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي.
فأجباه الحر:
ـ ما لكم فيما عرضه عليكم من الخصال؟
فرد عليه عمر:
ـ لو كان الأمر إليّ لقبلت، لكن أميرك أبى ذلك.

وبهذه اللحظة المفصلية، ماجت الأسئلة في رأس الحر الرياحي رضوان الله تعالى عليه، وتساءل عن سبب اصرار القوم على قتل الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام، وعدم القبول بأي عرض يمكن أن يُعرض عليهم! على الرغم من أن سبل نجاته صلوات الله عليه كانت موجودة ولو على الصعيد السياسي حسب تصور الجيش الأموي.
وعندما تناهى لعلم الحر الرياحي رضوان الله تعالى عليه أن القوم أنما هم لا يقصدون غير قتلهم الإمام الحسين وسبي الفواطم من نسوة البيت المحمدي، صار رضوان الله تعالى عليه في صراع نفسي صعب، بين مبدأه كمسلم حيال أمام زمانه وبقية النبوة الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام وبين عقيدته العسكرية كونه من رجالات الجيش الأموي وصفوة قادته، والظاهر أن الخيار الأخير أجدى وأنفع، فمن جهة المنصب، قطعا سيترقى، ومن جهة الحبوة لدى السلطان، فهي مما لا شك فيه، ناهيك عن أن خيار الانسحاب قد يودي بحياته وعلى أقل التقادير قد يفقد على إثره ـ الانسحاب ـ ما تحصله من امتيازات ومنها تسيده الجيش كقائد مهم، ما يعني أن بالخيار الأول، ثمة دنيا تزهو له وتضحك مستبشرة، في حين إن في الخيار الثاني ما قد يقطع عليه بعض من ملاذ الحياة وبهرج ذهبها وما يمكن ان يتنعم به قائد من هذا المستوى الرفيع.
والغريب في كل ذلك، إن حرنا الرياحي رضوان الله تعالى عليه، لم يقبل بكلا الخيارين!!! إنما أختار الأصعب منهما، خيار ثالث في بوصلة المبدأ، أختار أن يكون جنديا مع الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام.
نعم.. أختار الجنة ونعيمها، حيث الحسين وجده صلوات الله تعالى عليهما. 
حيث يذكر التأريخ بأن من جاور الحر  الرياحي رضوان الله تعالى عليه ساعة هذا الموقف، رأوا عليه ملامح الاضطراب: فقال له أحدهم وهو يحاول أن يشد من عزيمته؛ بغية إبقاءه مع الجيش الأموي:
ـ لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك، فما هذا الذي أراه منك؟.
فأجابه الحر الرياحي رضوان الله تعالى عليه:
ـ إنّي أخيّر نفسي بين الجنة والنار، والله لا أختار على الجنة شيئاً ولو أُحْرِقت.

بهذه الكلمات الواثقة، وبهذه اللحظة المفصلية، أختار الحر الرياحي رضوان الله تعالى عليه انعطافته التاريخية، أختار الجنة على النار، أختار المبدأ الحق على عار الثبات على الباطل، فراح منكسا رمحه قالباً قوسه مطأطأً رأسَه حياءً من الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام وقال له:
ـ اللهم إليك أنيب فتب عليَّ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك! يا أبا عبد الله إنّي تائب فهل لي من توبة؟.
فقبل الإمام الحسين صلوات الله تعالى عليه توبته، وقبلها الله جل شأنه، وصار الحر حرا، حرا في الدينا والأخرة، كما أسمته أمه رضوان الله تعالى عليهما، وراح يقاتل بصف الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام حتى استشهد في ركابه ليُعّد بحق شهيد المبدأ.

 

العلوية فاطمة الجابري

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م