26 شوال 1445 هـ   5 أيار 2024 مـ 9:34 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2022-04-18   306

العبودية لغير الله؛ حرية بقيود مخملية

حديثنا عن الحرية هنا، نقصد به ما يناقض مفهوم العبودية، مع أن الأخيرة تلونت وتشكلت وأخذت طابعا عصريا ومؤدلجا، غرر الكثير ممن استُعبد بداعي الحرية، ما جعل مفهوم الحرية يزيغ كثيرا عما استُنبطن لأجله، وذلك بتوظيف البعض مفهوم الحرية وفقا لما اخرجته النهضة المدنية وحقوقها في القرن التاسع عشر وما بعده، إذ ابتدع مفهوما اخر لها، وصارت الى ما ينشد منح الفرد ما تشتهيه نفسه! وهو ما أوصل الكثير من المجتمعات ـــ التي طبقت هذه الحرية ـــ الى حالة الفوضى على الصعيدين الفردي والمجتمعي. 
والحرية حسب المفهوم الإسلامي، الإرادة الباعثة في الإنسان على عمل ما دون أن يستبطن ذلك فرض من قوة أخرى غير قوة خالقه، ولا يعارض حرية خاصة بإرادة إنسانية اخرى.
وقد وضع الإسلام قوانين حرية الفرد فيه على أس التوحيد الذي يستبطن العبودية لله ولا غيره، وأي عبودية لغيره ـــ سبحانه وتعالى ـــ إنما يصنفها الإسلام على إنها سلب للحرية، باستثناء تلك التي تكون اشبه بالالتزامات الأخلاقية والأدبية مما يفعم النفس الإنسانية بالقيم وإن كانت قيد، كالخضوع للوالدين تأدبا واحتراما، والتسليم لله من خلال التسليم لأولي الأمر كالنبي وخلفائه، وقيود أخرى تشكل تناغمية وتراتبية خاصة، سنذكر بعضها في موارد اخرى. 
وعلى هذا، فالحرية في الإسلام إنما هي نفي سيطرة الغير، والسماح بها ـــ السيطرة ـــ للموجد المبدع الله سبحانه وتعالى، وقاعدتها هي التوحيد لله والعبودية المحضة له، بما يحطم كل القوى الوثنية التي تحاول هدر كرامة الإنسان، ((إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) (الأعراف ـــ194)، إذ يجعل الإسلام، عبودية الإنسان لربه وحده، أساسا لتحرره من عبودية غيره، كقوى او افراد، مهما كانت وكانوا.
وتبدأ الحرية في الإسلام من تحرير الإنسان من الأصنام المادية والمعنوية، وذلك بالخلوص لله والعبودية له فقط، وليس من تنافي في ذلك، فالحرية وجهها الأول العبودية لله، ووجهها الثاني التحرر من العبودية لغيره، بما يشعر المسلم بأنه يقف وأي قوة أخرى مهما عظمت وتجبرت، أمام جبار السماوات والأرض، ومن يحق الحق، وبالتالي فهي ـــ العبودية ـــ ستحرره وتحطم في نفسه كل عبودية لغير موجده، بعد أن يستشعر في نفسه بأن أي قوة مهما كبرت ـــ غير الله ـــ لا يمكنها ان تتحكم بوجوده، ولا يمكنها أن تحدد مصيره. 
والغريب أن الحرية في غير الاسلام ومنها الرأسمالية، تُعتبر حقا طبيعيا يمكن التنازل عنه، لأنها منحة ومعطى ثوري غير أصيل؛ جاء كردة فعل على منظومة حياتية سلبت الإنسان ـــ في حين ما ـــ الحرية، وبالتالي فهي نشئ جديد، في حين إنها في الإسلام مما لا يمكن التنازل عنه أبدا، كونها حقا اصيلا لصيقا، ما يعني أنه غير قادر على هبتها او التبرع بها، لأنها وليدة بولادته وكائنة بكينونته. 
وإذا كانت الحرية إيجابية لدى الحضارات الأخرى، أي إنها تمنح الإنسان حق فعل ما يشاء، وربما قيدته بضوابط وقيود من حيث غررته بالحرية ـــ كقيد الأيديولوجيا في مفاهيم الحرية الفكرية ـــ إلا إنها في الإسلام سلبية، إذ انها تمنعه من الخضوع لغير الله، وتسلبه إمكانية اذلال نفسه وإخضاعها لقوة تساويه وربما تقل عنه في كونها لا تهبه ما لا تستطيع ولا تسلبه ما لا تمنحه.
وعلى هذا، فإن مقدمة شعار الإسلام "لا إله الا الله" بمثابة نقطة الشروع في منح الحرية للفرد، إذ به يجرد أي متعلق من متعلقات العبودية لغير الله، حيث أن العبودية لغير الله لا تقتصر على العبودية الملكية (عبد ومالك) فقط، بل اخذت اليوم اشكال وخصائص أخرى، منها ما يمنحه البعض للبعض الأخر من رغيف خبز يشتري به فكره وعقله وربما جسده، وهي ما يساوي أتخاذ الربوبية بشيء ما،((وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ))(آل عمران ـــ64)، وهذا ما جعل الحرية مشتغلا إسلاميا، فراح يحرر الإسلام؛ إنسانه من كل الأغلال، المعنوية والعملية، العقائدية والفكرية، النفسية والاجتماعية، خصوصا تلك التي تصيبه بالعمى وتضرب عقله بالوهم، وتمنعه عن حالة الترقي والتكامل، مما لا ينسجم مع أصل خلقته ويعيق نيله السعادة والفلاح، وأّصل ذلك فيه من خلال إزالته لجميع الآصار والأغلال (ومن مصاديق الأغلال الفكرية، حالة التجهيل والتعمية، والطبقية والتمايز، والاستكبار والاستعباد، والإفقار) عن الإنسان بما يسمح له من العيش بسماحة ويسر وحرية في دنياه.
كما ان تحرير الإسلام للإنسان، له وجه أخر، فبالإضافة الى تحريره من كل ما يثقله ويكهله مما سبق ذكره، فأن وجه تحريره من نفسه ومن شهواته غير المنضبطة هو وجها مهما من وجوه الحرية، خصوصا مما يقيد إنسانيته وربما يخرجه ـــ تحت عنوان الحرية ـــ من الإنسانية الى الحيوانية والغرائزية خصوصا وهو يرى في من ترك الشهوات حرا، لأن "من ترك الشهوات كان حرًّا"، وبالتالي فأنه ـــ الإسلام ـــ فك أسار إنسانه وكسر مكبلاته من نتائج الحرية غير المنضبطة التي ستكون كارثية حتما لتعارضها مع الفطرة السليمة، فضلا عن تزاحمها مع حقوق الأخرين خصوصا في طمعه بما عند الأخرين باعتبار ذلك نوعا من استرقاق الذات، "لا يسترقَّنَّك الطمع وقد جعلك الله حرًّا".
كما أن عبودية الإنسان لنفسه مما يناهض عبوديته لخالقه، بل ويؤبق به نفسه ويعيقه من عتقها لأن "ليس من ابتاع نفسه فأعتقها كمن باع نفسه فأوبقها"، ما يُلزم أن تكون العبودية لله فقط لأن في ذلك عين الحرية ومادتها، كما يؤكده ترجمان كتاب الله وتتمة نبوة نبيه الإمام علي عليه الصلاة والسلام؛ حينما قال: "لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً". 
وبشيء من الفلسفة، فأن بعض القيود التي بفرضها الإسلام على الإنسان، إنما هي حرية ثمينة، وأن كانت سالبة لطموحه، فقيد كالكفارات مثلا يستبطن نوعا من الحفاظ على حرية الاخرين ممن يعتدي عليها، وقيد ضبط الشهوات، هو الأخر أس للنظم المجتمعية، وقيد الحفاظ على الكرامة الإنسانية، هو رفع شأنية الإنسان وبالتالي المجتمع.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م