17 شوال 1445 هـ   26 نيسان 2024 مـ 4:20 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2020-03-27   915

الجزية... تمييز أم تمايز؟

أن يكون الإسلام دينا عالميا، شموليا، ذلك يعني عدم توقفه عند حد جغرافي او مائز عرقي، على غير سواه من الديانات التي تتسم بسمة الانغلاق إلا على من هم من عرقها، بل وتمنع حتى الزواج ممن هو خارجها فضلا عن كثرة قيودها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية على من يحاول النفاذ لها.
من هذا نرى أن الإسلام يؤسس بل ويؤمن بالمواطنة ولا يصنف مواطنيه على أنهم درجات؛ والدرجة الرفيعة فيه للمسلمين، وأدل دليل على ذلك ما يعرف بــ "الذمي" في الإسلام، إذ أن اهل الذمة اصطلاح يطلق على غير المسلمين ممن يساكن المسلمين في بلادهم وتحت حكومتهم، والجميل بهذا الاصطلاح أنه مأخوذ من مفردة "الذمة" أي الأمان والعهد، باعتبار أن الذميين (غير المسلمين) قد باتوا بذمة المسلمين؛ مستأمنيهم بذلك على أموالهم وأعراضهم وارواحهم بمقابل مادي يسمى "الجزية".
والجزية ضريبة مواطنة يدفعها غير المسلم (الذمي) نظير توفير الحكومة الإسلامية ما يضمن له أمنه وسلامته، وبالتالي فأن كونه من أهل ذمة إنما يراد من ذلك منحهم حقا عبر هذه الصفة كتمييز لهم عن المسلمين؛ على غير ما يريده البعض بتشويه الإسلام من خلال جر اللفظة الى غير معناها.
وإذا ما قيل إن هذه "الضريبة" تدفع من قبل الذمي دون المسلم، فهذا أمر يجانب الصواب، إذ ان على المسلم ضرائب كثيرة باعتبار أن الذمي يدفع عشر تجارته في وقت فرض على المسلم فيه ضرائب أكثر وأكبر، كالزكوات والأخماس والصدقات وهي نسب مالية كبيرة إذا ما قيست بما يفرض على غير المسلم. 
وإذا ما قيل بإن في ذلك ثمة تعسف، فأن الجواب هو أن مبدأ الضرائب مبدأ تضامني متقدم وعصري؛ لما فيه من مسؤولية جماعية، وقد تنبه له الإسلام قبل النظم السياسية والدولية الحالية، كمبدأ لتدوير الأموال من جهة، وعدم تكديسها بأيدي محدودة من جهة اخرى، فضلا عن كونه مبدأ تكافليا إنسانيا، ناهيك عما يخلقه من تضامن في مسؤولية إدارة المجتمع وتوفير الخدمات الضرورية له كحفظ نظامه والدفاع عنه وتسيير أموره الاقتصادية وفقا لمبدأ الحقوق والواجبات المجتمعية.
ووفقا لذلك، فالجزية إنما هي مقابل وعوض عن خدمات تقدمها الحكومات الإسلامية لمن يسكن البلاد الإسلامية من غير المسلمين، ولها نظير على الفرد المسلم كمهك، ولكن بشكل اكبر وأوسع، ففي وقت يعفى فيه غير المسلم من واجب الخدمة العسكرية على عكس المسلمين الذين يكلفون بها كواجب وليس كحق، مع العلم أن الإسلام قد اعفى أصناف كثيرة من غير المسلمين من دفع الجزية كالعاجزين والصبيان والنساء والعبيد والشيوخ والمسنين والمعاقين والفقراء، أي انها تؤخذ على قدر ما يطيقون منها، ومن ذلك أن الإسلام أمر بحسن التعامل في أخذها منهم بل والاكتفاء باليسير منها بعد ترك ما يحتاجون اليه فعليا، وهو ما أوصى به أمير المؤمنين علي عليه السلام بقوله: "إياك أن تضرب مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً في درهم خراج، أو تبيع دابة عمل في درهم، فانا أمرنا أن نأخذ منه العفو"، وبذلك فأنه عليه السلام قد الزم الجباة بعدم ضرب من لا يدفع الجزية، بل وأكد بأن لا تباع موارد رزق غير المسلم كدابته، كونها مما يسبب له ذلك الرزق.
بل ومنح الإسلام غير المسلمين في داره حقوقا اقتصادية أخرى كنوع من الضمان الاجتماعي لهم، ومن ذلك مثلا حرمة الاعتداء على أموالهم ـ أيا كانت هذه الأموال ـ، وعلى المسلم الذي يأخذها او يتلفها الضمان، حتى فيما لا اعتبار له في الإسلام بل وحتى ما كان حراما لدى المسلمين كالخمر والخنزير مثلا.
وبغير الواجب المادي، فأن رسول الإسلام صلى الله عليه وآله لم يترك مناسبة في هذا الصدد إلا وذكر فيها بل وشدد على المسلمين بضرورة مراعاة من يساكنهم من غير المسلمين، ومن ذلك مثلا ما قاله صلوات الله عليه وآله: "ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة".
وفي مورد تتمة فلسفة رسول الله صلوات الله عليه وآله في التعامل مع غير المسلمين في البلاد المسلمة، نتلمس حجم الخصوصية التي منحها أمير المؤمنين علي عليه السلام لغير المسلمين في دار الإسلام إذ يقول: "من كان له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا"، وليس ببعيد عن ذلك ما ذكره لنا التأريخ من أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلا كبيرا يطلب حاجته من الناس، فتساءل عن موقفه باستغراب بعدما هيء لمجتمع متكامل لا طبقية فيه، فأجابوه بـ: "أنه "نصراني"، فرد عليهم بضرورة منحه مرتبا من بيت مال المسلمين بعد أن قال قولته الحقوقية العظمى: "استعملتموه حتى إذا كبر وعجز تركتموه، أجروا له من بيت المال راتبا"، ما يدل على أن غير المسلم قد يعفى حتى من الجزية بل ويمنح من بيت مال المسلمين الذي بني من زكواتهم وأخماس أموالهم وتبرعاتهم. 
ونفس الأمر أوصى به رابع أئمة اهل البيت النبوي الإمام السجاد عليهم السلام في رسالته الحقوقية، إذ يقول: "واما حق أهل الذمة فالحكم فيهم؛ ان تقبل منهم ما قبل الله، وتفي بما جعل الله لهم من ذمته وعهده، وتكلهم إلى الله فيما طلبوا من أنفسهم واجبروا عليه، وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك فيما جرى بينك وبينهم من معاملة، وليكن بينك وبين ظلمهم من رعاية ذمة الله والوفاء بعهده وعهد رسوله حائل، فانه بلغنا انه قال: من ظلم معاهداً كنت خصمه".
كما كفل الإسلام لغير المسلمين إقامة طقوسهم وشعائرهم سيما الكتابيين منهم (من لديهم كتاب كالنصارى واليهود)، خصوصا وأنه جعل الضابطة الأهم في تمايز من يسكن البلاد الإسلامية هي ضابطة التقوى ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))(الحجرات ـــ 13)، مع دعوته لهم بسبل الحكمة والموعظة الحسنة دون إكراه ((ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ))(النحل ـــ 125).
اما عن تصرف المسلمين في غير دارهم، أي في دار غير المسلمين كالدول الغربية مثلا، فأن الضوابط الشرعية التي تطبق في دار الإسلام ستنطبق عليهم وليس متصورا ان يسمح الدين الإسلامي للمسلمين بغير ما يقرره أهل تلك الدار، وبالتالي فقد ألزم الإسلام المسلمين في خارج حدوده بإداء الأمانة وعدم الخيانة ومنع من الاستفادة غير المشروعة في تلك البلدان، ومن ذلك ما يوصي به الفقهاء المسلمون بحرمة استفادة المسلم من الإعانات والرواتب التي تمنح للمسلم في بلاد غير الإسلام؛ بغير وجه حق؛ خصوصا تلك المبنية على بيناته المظللة لهم بقصد الاستفادة، كما اكدوا على ضرورة التزام الأمانة في ما يستفاد منه كمنعه للمسلمين من الغش في عدادات الماء والكهرباء والاتصالات وغير ذلك من الفواتير، بل وشدد على ضرورة اعتماد المصداقية معهم خصوصا في البيانات والمعلومات والتحركات وكل ما يعتبر عندهم قانوني وخرقه يعتبر خرقا للنظام العام لديهم.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م