23 شوال 1445 هـ   2 أيار 2024 مـ 3:03 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2021-12-24   862

المُفردةُ الماكرةُ ..الى أين ؟

قد يبدو للوهلة الأولى، أن ما تردده أوساط إعلامية وثقافية، هنا وهناك، وما تطرحه من فرضيات تاريخية وتفسيرات نفسية، من الحقيقة والواقع بمحل كبير! فالإشباع الذهني المتحقق تراتبياً يبعث بهذه الرسالة، ولا يُفهم غير هذه الرسالة.. إذ من غير المعقول أن كماً كبيراً، من الكتابات والطروحات والفعاليات العالمية، تبذل جهوداً مضنية وتستفرغ أقصى سعيها لأجل أمر غير واقعي، أو منطقي؟
وقد تبدو المحاولات الرامية الى تصحيح بعض المغالطات ورد بعض الإشكاليات، من قبيل المستحيل.. وهذه فرضية تمخضت عن سابقتها.. وكم هو جميل ذلك المثل العربي القديم القائل: "الدَّهْرُ أرْوَدُ مُسْتَبِدٌ "، ومنه سيكون انطلاقة هذا المقال، لأتقمص ثوبَ من تبنى الفرضية الأولى، وأعيدُ طرح تساؤلاته المتكررة.
لماذا تشيعُ عند العلمانيين ظاهرة التسامح؟؟ولماذا يلتزم الطرف الاخر(المُتدين) النقيض تماماً (التعصب)؟؟
وقبل الإجابة، لا بُّد من التروي قليلاً، والتأمل.. فالتأمل مقدمة للانطلاق الصحيح.. وليس العبرة في سرعة الرد غير المدروس!! بل في قوة الرد العلمي المقترن بالشواهد والقرائن.. وضمن عقلية الطرف المقابل والقوانين التي يؤمن بها؛(يعني) حسب قاعدة (الإلزام).
ولا استغراب في جاهزية المعلومات الداعمة لـ (علمانية التسامح) والتي تعتمد في بعضها؛ فرضيات تقترب من المُسلمات عند القوم.. ففي الوقت الذي يطالبك (العلماني) بتقبل الآخر والركون الى النقاش والحوار، وعدم تقديس المنظومة القرآنية والتشريعية.. تراه يُصدر (إسقاطاته الذهنية) على هيئة (قانون شرعي غير قابل للنقاش).. وهذا (مزلق) التناقض الذي لا يؤمن به أبداً!!
هو يريد مني التسليم لمقررات العقل الجمعي لشريحة تروج لهذه الافكار، و لـ (قداسة قوانين) يراها!! وموافقته على توظيفه، لبعض الأحداث العالمية، لصالحه، رغم عدم الملازمة.. حتى بدى من خلال ضخ الدراسات والبحوث والمقالات والاستبيانات والاشارات الاعلامية، بهذا الخصوص، أن هذا هو الواقع ولا سبيل للإنسان المُتدين غير التسليم والإذعان له!!!
في محاكاة تذكرنا بالعبارة الماكرة للمؤرخ اليهودي البريطاني (برنارد لويس)، والتي يصف فيها التسامح في الاسلام بـ (التسامح النظري)!! بينما المعلومة الصادمة تقول خلاف ذلك، ففي الندوة التي عقدها المجلس الأوروبي وجمعية الخمسمائة سنة، تحت عنوان (العنصرية واللاسامية)، أوضح (برنارد لويس): "إن فكر التسامح ولد في النصرانية، نتيجة الحروب الدينية في أوربا، والتي أزهقت أرواح الآلاف نتيجة الصراع الدموي بين الكاثوليك والبروتستانت، لذا كان لزاماً فصل الدين عن الدولة، والعلمانية وُجِدت لحلّ مشكلة النصرانية"، ويضيف قائلاً: "فهذه المشكلة لم تنشأ في البلاد الإسلامية، لأن الناس المنتسبين لأديان مختلفة في البلاد الإسلامية، وجدوا إمكانية العيش هناك بصداقة وأخوّة وبدون صراع ونزاع". 
وإرتحالاً وراء المنطق، نعضدُ ما ذهب اليه (برنارد لويس)، ونستحضر المفاهيمية التخصصية المتقدمة زمنياً، على (علمانية الغرب)، وبمثال غاية في التكامل والمقبولية عند الأمم التي تعرفت عليه، وهو الامام جعفر الصادق عليه السلام؛ الإمام الروحي للكلمة الطيبة ومؤسس منظومة المعارف العالمية المتكاملة، الذي تبنى مشروع نشر الثقافة والمعارف الالهية الاصيلة بلغة القران الكريم بالحوار والكلمة الطيبة والتسامح، وصولاً الى ترسيخ السلم الأهلي والمواطنة الصالحة.
وأنت أيها الشريك في الإنسانية، تعال واقرأ هذا المشهد الثقافي والإنساني المُمَيز، وأضفهُ الى مخبوء ذاكرتك، ثم أستحضر وتأمل.
يقول هذا الإمام العظيم لأحد أصحابه: "يا ابن جندب: صِلْ من قَطعَك، وأعط من حرمك، وأحسن إلى من أساء إليك، وسلم على من سبك، وأنصف من خاصمك، واعفُ عمن ظلمك، كما أنك تحب أن يعفى عنك، فاعتبر بعفو الله عنك، ألا ترى أن شمسه أشرقت على الأبرار والفجار، وان مطره ينزل على الصالحين والخاطئين".
فالتسامح عند الإمام واجب ديني واجتماعي وأخلاقي وليس منة أو فضلاً؛ وهذا الفهم يتجاوز التصور الغربي للتسامح، الذي تقتضيه الظروف؛ كما يقول  عالم الاجتماع الانكليزي(جون لوك) في كتابه (رسالة في التسامح): "فإن اقتضت الظروف ـ السياسية غالباً ـ ان يتسامح مع المذاهب والأديان الأخرى، عُمِلَ بها ، لأن عدم التسامح سيؤدي إلى شرور أكبر".
وهو ما أكده المؤرخ الاوربي (سترومبرج) في كتابه (تاريخ الفكر الأوربي الحديث) في دفاعه عن الحرية بأنه: "دفاع عن حرية أولئك الأثرياء من الإنكليز من أبناء طبقته" وهو في هذا المفهوم نظرية سياسية وليست إنسانية!!!
بينما منهج الإمام الصادق عليه السلام منهج آخر، يختلف تمام الاختلاف، ومتقدم، وكانت نتيجة هذا المنهج أنجع وأكثر تأثيراً في الخصم من الأسلوب الذي اتبعته أوروبا سابقاً، ويتضح ذلك في سياق حواراته مع الُمُلحدين والمخالفين له في الفكر والعقيدة والرأي، فنراه يتبع آليات اللَّيّن في الحوار، يردّ عليهم الحجّة بالحجّة، والمنطق بالمنطق.. وقد شهد له من حاوره بهذه الإنسانية.. فهذا ابن المقفّع، المتأثر بالزندقة، يقول بعد حواره مع الإمام عليه السلام: "ليس هناك من كلّ هؤلاء ـ الذين كانوا في الطواف آنذاك ـ من يستحقّ اسم الإنسانيّة كجعفر بن محمّد".
وشتّان ما بين الذي يتبنى التسامح، منهاجَ حياةٍ ومنظومةَ فكرٍ وديناً يَدينُ به، وبين من يوظف التسامح لسد الثغرات المرحلية – سياسياً وفكرياً-، ويتخذه وسيلة لتجاوز (أزمات الفكر) و (فقدان الهوية)!!

مرتضى محمد

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م