23 شوال 1445 هـ   2 أيار 2024 مـ 7:26 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2022-03-29   569

القرآن وسننه التاريخية الحاكمة على الإنسان

تتباين النظرة الفلسفية لحركة التأريخ البشري، بشكل واسع وعريض، فبين من يرى فيها بأنها مجرد صراع من أجل البقاء، ويحقق فيه القوي بقاؤه على حساب الضعيف، وهو ما ذهبت إليه مدرسة داروين، في حين يرى البعض الأخر بأنها حركة قائمة على الصراع الطبقي، بعد أن رأوا في المجتمعات البشرية طبقات ومستويات، وغالبا ما تكون مادية، وهو ما أسس له ماركس، وعرف فيما بعد بالماركسية وانبثقت منها الاشتراكية والشيوعية بمفهومها الأيديولوجي، في حين ترى المدرسة الهمنكتونية ـ نسبة لهيمكتون او هيمنغتون ـ بأنها حركة محكومة بصراع الحضارات، وبالتالي فأن الحضارات تهرم وتشيخ كما الإنسان، مع فاعلية القوة لكل حضارات والمتمثلة بالتقدم الصناعي والوفرة المالية على حساب تلك الضعيفة أو التي ضعفت لسبب أو لأخر. 
وبعيدا عن هذه المدراس المادية حيال تفسير حركة التأريخ، جاء القرآن الكريم بتفسير أعمق وأبعد نظرا، يفسر من خلاله حركة التأريخ، ومسار البشرية فيه، وذلك بالاستناد الى مفهوم الصراع العقدي، أو ما يسمى بصراع الخير والشر، وبتعبير أدق صراع الحق والباطل، كصراع أضداد. 
والمتتبع للقرآن الكريم، خصوصا في جانبه القصصي، يلمس جليا بأنه قد أدرج صراع الحق والباطل بمفهومه السُنني، أي أنه أعتبره سنة كونية، وقد جعله جل وعلا ميزانا أوليا لبدء نزول الإنسان على الأرض بمعية عدوه التقليدي ـ إبليس ـ ثم جعله معيارا لوراثة الأرض ((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ))(سورة الأنبياء ـ 105)، وبالتالي فأنه ـ جل شأنه ـ جعل من صراع الخير والشر (الحق والباطل)، سنته الأبدية، مع أن ليس بالضرورة أن ينتصر الحق فيه دائما، ولا الباطل كذلك، إنما وجدوه كصراع فلسفي يمحص الأنسان من خلاله لأي الجبهتين يصطف ويختار، وهو ما يعني بالضرورة بأنهما متلازمين قدر تحقق فكرة الابتلاء الإلهي للعباد، ويعني أيضا بأنهما متواجدان بشكل مستمر، ولا يمكن أن ينتصر طرف منهما (وحديثنا هنا دنيويا) على الأخر بشكل مطلق.   
وقد أكد القرآن الكريم في مرات عديدة على فلسفة هذا الصراع، وحتميته، وأنه معيارا لما بعده، فقد قال عز من قال ((الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا))(سورة الملك ـ 2)، كما قال عز وجل ((قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ))(سورة البقرة ـ 38).
وعلى هذا فأن المصارعة بين البشر إنما هي مصارعة حق مع باطل، وهي سنة من السنن البشرية، ينتج عنها خطان أثنان، هدى وضلال، خير وشر، وهي بذلك من النواميس التي جُبلت عليها البشرية، بل هي حكومة حكمت النظام الإنساني، وميزت بين طرفيه، فكان هنا طرف للحق، وهناك طرف للباطل، وعلى اساسه جاء الحكم الإلهي العدل في تمييز أصحاب الحق عن أصحاب الباطل، وبالتالي تخليدهما في الجنة او النار. 
ومع أن أدوات الصراع متكافئة، وكل لديه اساليبه ومنهجه، إلا أن العدل الحكيم يخبرنا بضرورة انتصار الحق ولو آخرويا، لأن ذلك من دواعي العدالة التي اسس لها جل شأنه، أي ان حقيقة الصراع بينهما ـ الحق والباطل ـ ومسار التأريخ المترتب على ذلك، إلا أن انتصار الحق لا غبار عليه وذلك بعد الأخذ بأسباب هذا النصر، حتى لو أنتصر الباطل في أكثر الجولات، ((ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون))(سورة الأنفال ـ 8)، ((بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق))(سورة الأنبياء ـ 18)، ((ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته))(سورة الشورى ـ 24). 
وأبعد من ذلك، راح القرآن الكريم يسرد هذه الحقيقة في عدة مواطن، بل ويذيلها في المئات من آياته، على أنها المعيار الإلهي في التمييز بين عباده، لذا نجده ـ القرآن الكريم ـ يبين بأن هذا الصراع قديم قدم خلق الإنسان، ومنه قصة الأخوين قابيل وهابيل، بل أنه أرجع هذا الصراع لقبل ذلك، بل وعلى غير الأرض، يوم اتخذ ابليس من أدم عدوا أبديا.
كما ذكر القرآن الكريم، صراعا أخرا كان بمثابة تتمة للصراع آنف الذكر، وهو صراع النبي موسى عليه السلام مع فرعون الذي أدعى الالوهية حين قال ((ما علمت لكم من إله غيري))(سورة القصص ـ 38)، لتكون نتيجة الصراع بغلبة أهل الحق من موسى عليه السلام وأتباعه ((وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون))(سورة الأعراف ـ 137)، وقوله عز من قال ((فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون (118) فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين(119))(سورة الأعراف ـ 118 ـ 119)).
وتأكيدا لهذه الحقيقة، ذكر القرآن الكريم نماذجا أخرى، توضح بشكل بديهي، الحركة التاريخية للبشرية، وهو مستندة الى صراع الحق والباطل، ومن ذلك ما حدث أيام نبينا الأكرم صلوات الله عليه واله في معركة بدر الكبرى، حيث قال ((ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة))(سورة آل عمران ـ123)، ليعيد التأكيد في قوله تعالى ((ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين (7) ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون))(سورة الأنفال ـ 7 - 8).
وذو صلة، فأن ُسّنة صراع الحق والباطل تتناسل منها سُّنة اخرى ألا وهي سنة التدافع التي أسس لها القرآن الكريم من خلال قوله جل وعلا ((ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين))(سورة البقرة ـ 251) وهو تقرير عملي لنصرة الله للحق، ومنعه من تسيد الباطل لئلا تُقام عليه الحجة من عباده، حاشاه وجل وعلا، وهو ما يعني بالضرورة أن اليد الإلهية لا بد أن تتدخل في أوقات ما؛ من الصراع بين الحق والباطل ((بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق))(سورة الأنبياء ـ 18) حفاظا على موازين العدالة الحقة من جهة، وكي لا يظن ضعيفو الأيمان بالله ظن أهل الجاهلية بالله كأن يظنوا بأنه جل وعلا راض عن أهل الباطل بل ويملي لهم ما يريدون، أو أنه ـ حاشاه من ذلك ـ يقبل بأهل الشر ويمدهم في نعمه بل ويرخي له العِنان، أو قد يظنون بأن ليس له صولة تفصل بين الحق والباطل، فيدع أهل الباطل ينتصرون على أهل الحق دون أن يتدخل، وهو ما قد يهز ثقتهم به أو يحسبون أن أهل الباطل على حق وإلا ما كانوا ليحوزا على النصر لو لا كونهم على حق، وهو ما قد يدعم موقف المفسدين الباطلين ليس إلا لأنهم أهل قوة انتصروا بها على أهل الحق ((فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون))(سورة غافر ـ 78)، وهو مناف بالطبع للعدالة الإلهية، وبالتالي فأن لله صولته الكبرى حيال المبطلين، ينتصر فيها لأهل الحق. 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م