1 ذو القعدة 1445 هـ   9 أيار 2024 مـ 1:21 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2021-11-16   1252

الشاعر التركي محمد عاكف.. شاعر الوحدة الإسلامية والوطنية

لا شيء أروع من أن تجتمع لدى الشاعر روح إسلامية خالصة وعاطفة وطنية صادقة على صعيد واحد، لأن ما يتمخّض عنهما يكون أدباً رائعاً حقاً؛ وهذا ما أجتمع لدى الشاعر الإسلامي والوطني التركي محمد عاكف، صاحب الفكرة المثالية السامية والمذهب الإنساني القويم الذي كان شعلة أدبية وقّادة وطاقة شعرية متدفقة، أحتل مكاناً متميزاً في الأدب التركي، وحاز اعجاب النقاد والمفكرين فعدّوه (شاعراً فيلسوفاً) يحق له أن يحمل لقب (العظيم) لمكانته الأدبية الكبيرة.
كانت المصادر التي استقى منها عاكف في شعره كفيلة لأن يتبوّأ تلك المنزلة العظيمة وينقش اسمه على صفحة مشرقة من صفحات التاريخ الأدبي التركي فقد كان ينبوعه الثرّ هو القرآن الكريم الذي نهل منه عاكف منذ صغره فتوشح شعره بالروح الإسلامية الخالصة والأخلاق العالية.
ولد عاكف عام 1873م ونشأ نشأة كريمة في بيئة تغمرها العفة وتسودها تعاليم الإسلام الحنيف، فوالده كان من علماء الأتراك وكان شغوفاً بقراءة القرآن والتدبر فيه وإدراك أعماق معانيه ودخائل مقاصده فأدرك جوهره وتغلغل الى صميمه بإيمان وإمعان، فاستطاع أن يغذي ابنه بمبادئ القرآن وأن يؤثر في سلوكه وأخلاقه وأن ينير طريقه بنور كتاب الله، وكان عاكف عند ظن أبيه فنحا منحاه وسلك مسلكه وأقتفى أثره فنشأ كتلة متوهجة من الإيمان والارادة والعقيدة معززاً بتعاليم القرآن الكريم والتربية الصالحة فكانت كل هذه العوامل قد زادت من صموده وخضوعه لمشيئة الله تعالى وتحمله مشقات الحياة. 
مات أبوه وهو في الرابعة عشرة من عمره، ثم شبت في دارهم النيران وأكلت كل ما فيها لكنه تحمل كل هذه الصدمات بصبر جميل أهّله لمواصلة الحياة برحابة، فصمد غير ناكص وصبر غير آيس، لا يدب في جوارحه قنوط ولا جزع. دخل المدرسة التي كانت بمثابة محيط ثان إضافة إلى البيت ــ ركيزة التربية الأولى ــ وصمم على إتمام ما بدأ به البيت من التزوّد بالعلوم وكان للمدارس ذات الدرجات المختلفة التي تعلم بها عاكف أثراً كبيراً في تكامل شخصيته الأدبية والعلمية كما كانت الاشادة به لحسن سلوكه من قبل معلميه ومدرسيه حافزاً له على التفوّق، ويروي عاكف أن معلمه قد (غرس فيه روحاً جميلاً)، ويروي كذلك أنه تعلم من أساتذته صلابة العقيدة الدينية وقوة الإيمان بالدين والوطن فكان لهذه الدروس أثراً كبيراً على شعره حتى عدّ في طليعة الشعراء الإسلاميين الذين خدموا الإسلام فيما نظموه من أشعار. 
كانت أشعاره عبارة عن نفحات شاعر أصيل، مفكر، عصر مشاعره وأذاب روحه تدعيماً لوحدة المسلمين والصلاح والحق... يقول من قصيدته (رمضان):

يا رب..
بحرمة شهرك هذا العظيم..
أنقذ المسلمين..
أنقذهم من ضعف هائل يعروهم..
وحد صفوفهم.. وأجمع شملهم..
يا رب..
أنقذهم من وبال التفرقة..
فيكفيهم انهيار أخشى أن يسلمهم الى اليأس..
ما دمت منحتنا روحا كالحديد قوية..
يا رب..
فلتتنزل علينا نفحات الاتحاد والتضامن..

والمطالع لشعر عاكف يجد أنه خال من الجنوح إلى التصوف كما كان سائداً آنذاك، خال من الخرافات التي ليست من جوهر الدين في شيء، خال من كل ما من شأنه تفنيد الحقائق المقررة، والعقائد الثابتة لأن الدين عنده هو العامل المطلق الذي يسمو بالأخلاق ويرفع الكمال الاجتماعي ويعمل على تعزيز الوحدة الإسلامية وجمع كلمتها؛ يقول في قصيدته (مولود):

أرض الشرق هذه غارقة في لجة ظلام قاتم..
نثرت على السماء نوراً من جديد..
ففيك ذلك الفيض العظيم،..
أنا الحيران لذلك الصباح المخمور أيها الليل الذي طال،..
أنا ذاهب..
فقد ألبست ثوباً من نور..

عُيّن عاكف عضواً في دار الحكمة الإسلامية بإستنبول للاشتغال في مجالات الاجتهاد الشرعي، والنظر في أمور الدين، وقام بترجمة القرآن الكريم إلى اللغة التركية ولكن الفرصة لم تسنح لهذه الترجمة أن ترى النور لأنه أراد أن تنشر مع الترجمة تفسيرات في الحاشية لكن الحكومة التركية رفضت، فما كان من عاكف إلا أن أعرض عن نشر الترجمة كما ترجم كتاباً يتعلق بالإسلام لمؤلفه سعيد باشا حليم أثناء إقامته في مصر لدراسة الأدب التركي بجامعة القاهرة ومن الجدير بالذكر أن عاكفاً كان يتقن اللغة العربية إتقاناً تاماً حيث تعلمها على يدي والده العالم اضافة الى إتقانه الفارسية والفرنسية وقد ترجم كثيراً من الأشعار الفارسية الى اللغة التركية كما وضع كتاباً أسماه (المرأة المسلمة) قام بترجمته الى اللغة العربية المفكر العربي محمد فريد وجدي. 
أما نتاجه الشعري فكانت سبعة دواوين وهي التي تسمى بمجموعها (صفحات) وهي: (الكتاب الأول)، و(في كرسي السليمانية) و(أصوات الحق) و(في كرسي الفاتح)، و(خواطر) و(عاصم) و(الظلال) والأخير ترجمه محمد محمد توفيق المصري إلى اللغة العربية كما ترجم الدكتور عبد الوهاب عزام والعوضي الوكيل بعضاً من أشعاره إلى اللغة العربية.
كانت رسالة عاكف إنسانية استخدمها للذود عن الدين الإسلامي ومبادئه السمحاء ونشر أفكاره الوطنية الصادقة فتغنى بأمجاد الإسلام وحض الناس على مكارم الأخلاق ودعا إلى حب الوطن والتضحية في سبيل هذا الحب الروحي المنبثق من أغوار الإيمان، فأرض الأجداد والأمجاد جديرة بالتقديس والتعمير ولا أدل على وطنيته المثلى من قصيدتيه اللتين تعدّان جوهرتين في جبين الأدب التركي وهما (نشيد الاستقلال) و(جناق قلعة) والأولى تعدّ من غرر قصائده التي يفخر بها كل تركي وقد كرَّم على (النشيد) بجائزة سنية غير أنه رفض تسلمها إمعاناً في حب الوطن ومساهمة منه في تركيز الوطنية الحقة، يقول في نشيده:

لا تخف، فإن الراية السابحة في قرارة الشفق،
لا تنطفئ، حتى ينطفئ آخر موقد،
في الوطن..
إنها نجمة أمتي.. سوف تتلألأ..
إنها رايتي.. راية أمتي قط..

لا تنطوي يا راية الأمة،
أفديك بنفسي..
وأغدو قرباناً لك..
ابتسمي لسعينا المحسوس..
لا هذا الاستسلام والحلم،
ولا هذا الضعف، والشدة
وإذا الدماء أريقت في سبيلك،
فسيكون الاستقلال،
حقاً مبيناً

لقد عشق عاكف الحرية، وسرى في جوانحه الإيمان بالوطنية وتقديس السيادة وتعظيم البواسل والأبطال والشهداء كما كان لشعره لوناً خاصاً مميزاً فيه وهو دعوة صارخة إلى الوحدة الإسلامية والدفاع عن حقوق المسلمين حتى عُرف بشاعر الإسلام، توفي شاعرنا في استنبول عام 1939م. 

محمد طاهر الصفار

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م